صفحة جزء
[ ص: 469 ] ( باب الغنائم وقسمتها )

( وإذا فتح الإمام بلدة عنوة ) أي قهرا ( فهو بالخيار إن شاء قسمه بين المسلمين ) كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر [ ص: 470 ] ( وإن شاء أقر أهله عليه ووضع عليهم الجزية وعلى أراضيهم الخراج ) كذلك فعل عمر رضي الله عنه بسواد العراق بموافقة من الصحابة ولم يحمد من خالفه ، [ ص: 471 ] وفي كل من ذلك قدوة فيتخير .

وقيل الأولى هو الأول عند حاجة الغانمين ، والثاني عند عدم الحاجة ليكون عدة في الزمان الثاني ، وهذا في العقار . أما في المنقول المجرد لا يجوز المن بالرد عليهم ; لأنه لم يرد به الشرع فيه ، [ ص: 472 ] وفي العقار خلاف الشافعي لأن في المن إبطال حق الغانمين أو ملكهم فلا يجوز من غير بدل يعادل ، والخراج غير معادل لقتله ، بخلاف الرقاب لأن للإمام أن يبطل حقهم رأسا بالقتل ، والحجة عليه ما رويناه ، ولأن فيه نظرا ; لأنهم كالأكرة العاملة للمسلمين العالمة بوجوه الزراعة والمؤن مرتفعة مع ما إنه يحظى به الذين يأتون من بعد ، والخراج وإن قل حالا فقد جل مآلا لدوامه ، وإن من عليهم بالرقاب والأراضي يدفع إليهم من المنقولات بقدر ما يتهيأ لهم العمل ليخرج عن حد الكراهة .


[ ص: 469 ] باب الغنائم وقسمتها )

لما ذكر قتال الكفار وذكر ما ينتهي به من الموادعة ذكر ما ينتهي إليه غالبا وهو القهر والاستيلاء على النفوس وتوابعها ، وإنما كان ذلك غالبا لاستقراء تأييد الله تعالى جيوش المسلمين ونصرتهم في الأكثر ( قوله وإذا فتح الإمام بلدة عنوة ) يجوز في الواو ما قدمناه في قوله وإذا حاصر الإمام ، وفسر المصنف العنوة بالقهر ، وهو ضدها لأنها من عنا يعنو عنوة إذا ذل وخضع ، ومنه { وعنت الوجوه للحي القيوم } وإنما المعنى فتح بلدة حال كون أهلها ذوي عنوة : أي ذل وذلك يستلزم قهر المسلمين لهم ، وفيه وضع المصدر موضع الحال ، وهو غير مطرد إلا في ألفاظ عند بعضهم ، وإطلاق اللازم وإرادة الملزوم في غير التعاريف بل ذلك في الإخبارات على أن يراد معنى المذكور لا المجازي ، لكن لينتقل منه إلى آخر هو المقصود بتلك الإرادة ككثير الرماد ، ولو أراد به نفس الجود كان مجازا من المسبب في السبب .

والوجه أنه مجاز اشتهر ، فإن عنوة اشتهر في نفس القهر عند الفقهاء فجاز استعماله فيه نفسه تعريفا ، وإذا فتح الإمام بلدة عنوة ( فهو بالخيار إن شاء قسمه ) أي البلد ( بين الغانمين ) مع رءوس أهلها استرقاقا وأموالهم بعد إخراج الخمس لجهاته ، وإن شاء قتل مقاتلهم وقسم ما سواهم من الأراضي والأموال والذراري ، ويضع على الأراضي المقسومة العشر ; لأنه ابتداء التوظيف على المسلم ، وإن شاء من عليهم برقابهم وأرضهم وأموالهم فوضع الجزية على الرءوس والخراج على أرضهم من غير نظر إلى الماء الذي يسقي به أهو ماء العشر كماء السماء والعيون والأودية والآبار أو ماء الخراج كالأنهار التي شقتها الأعاجم لأنه ابتداء التوظيف على الكافر .

وأما المن عليهم برقابهم وأرضهم فقط فمكروه ، إلا أن يدفع إليهم من المال ما يتمكنون به من إقامة العمل والنفقة على أنفسهم وعلى الأراضي إلى أن تخرج الغلال ، وإلا فهو تكليف بما لا يطاق . وأما المن عليهم برقابهم مع المال دون الأرض أو برقابهم فقط فلا يجوز لأنه إضرار بالمسلمين بردهم حربا علينا إلى دار الحرب . [ ص: 470 ] نعم له أن يبقيهم أحرارا ذمة بوضع الجزية عليهم بلا مال يدفعه إليهم فيكونوا فقراء يكتسبون بالسعي والأعمال ، وله أن يقتلهم وله أن يسترقهم كما سيذكر .

هذا وقد قيل الأولى الأول وهو قسمة الأراضي وغيرها إذا كان بالمسلمين حاجة ، والثاني عند عدمها .

ثم استدل على جواز قسمة الأرض بقسمته عليه الصلاة والسلام خيبر بما في البخاري عن زيد بن أسلم عن أبيه قال : { قال عمر رضي الله عنه : لولا آخر المسلمين ما فتحت بلدة ولا قرية إلا قسمتها بين أهلها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر } . ورواه مالك في الموطإ : أخبرنا زيد بن أسلم عن أبيه قال : سمعت { عمر يقول : لولا أن يترك آخر الناس لا شيء لهم ما فتح المسلمون قرية إلا قسمتها سهمانا كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر سهمانا } فظاهر هذا أنه قسمها كلها .

والذي في أبي داود بسند جيد أنه { قسم خيبر نصفين نصفا لنوائبه ونصفا بين المسلمين ، قسمها بينهم على ثمانية عشر سهما } . وأخرجه أيضا من طريق محمد بن فضيل عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم { أنه قسمها ستة وثلاثين سهما جمع كل سهم مائة سهم : يعني أعطى لكل مائة رجل سهما } . وقد جاء مبينا كذلك في رواية البيهقي ، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين النصف من ذلك ، وعزل النصف من ذلك لمن ينزل به من الوفود والأمور ونوائب المسلمين .

وحاصل هذا أنه نصف النصف لنوائب المسلمين وهو معنى مال بيت المال .

ثم ذكره من طريق آخر وبين أن ذلك النصف كان الوطيح والكتيبة والسلالم وتوابعها ، فلما صارت الأموال بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ولم يكن لهم عمال يكفونهم عملها فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود فعاملهم . زاد أبو عبيد في كتاب الأموال فعاملهم بنصف ما يخرج منها ، فلم يزل ذلك حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حتى كان عمر ، فكثر العمال في المسلمين وقووا على العمل ، فأجلى عمر رضي الله عنه اليهود إلى أرض الشام وقسم الأموال بين المسلمين إلى اليوم .

وقد اختلف أصحاب المغازي في أن خيبر فتحت كلها عنوة أو بعضها صلحا ، وصحح أبو عمر بن عبد البر الأول .

وروى موسى بن عقبة عن الزهري الثاني ، وغلطه ابن عبد البر قال : وإنما دخل ذلك من جهة الحصنين اللذين أسلمهما أهلهما في حقن دمائهم وهما الوطيح والسلالم لما روي { أنه صلى الله عليه وسلم لما حاصرهم فيهما حتى أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيرهم ، وأن يحقن لهم دماءهم ففعل ، فحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموال وجميع الحصون إلا ما كان من ذينك الحصنين ، إلى أن قال : فلما لم يكن أهل ذينك الحصنين مغنومين ظن أن ذلك صلح ، ولعمري إنه في الرجال والنساء والذرية لضرب من الصلح ، ولكنهم لم يتركوا أرضهم إلا بالحصار والقتال فكان حكمها كحكم سائر أرض خيبر كلها عنوة غنيمة مقسومة بين أهلها ، إلى أن قال : ولو كانت صلحا لملكها أهلها كما ملك أهل الصلح أرضهم وسائر أموالهم } فالحق في ذلك ما قاله ابن إسحاق عن الزهري : أي أنها فتحت عنوة دون ما قاله موسى بن عقبة عنه ا هـ ( قوله : وإن شاء أقر أهله إلى قوله : هكذا فعل عمر بسواد العراق ) لا شك في إقرار عمر رضي الله عنه أهل السواد [ ص: 471 ] ووضع الخراج على أراضيهم على كل جريب عامر أو غامر عمله صاحبه أو لم يعمله درهما وقفيزا ، وفرض على كل جريب الكرم عشرة وعلى الرطاب خمسة ، وفرض على رقاب الموسرين في العام ثمانية وأربعين وعلى من دونه أربعة وعشرين ، وعلى من لم يجد شيئا اثني عشر درهما ، فحمل في أول سنة إلى عمر ثمانون ألف ألف درهم ، وفي السنة الثانية مائة وعشرون ألف ألف درهم ، إلا أن في المشهور عن أصحاب الشافعي أنها فتحت عنوة وقسمت بين الغانمين ، فجعلت لأهل الخمس والمنقولات للغانمين .

والصحيح المشهور عندهم أنه لم يخصها بأهل الخمس لكنه استطاب قلوب الغانمين واستردها وردها على أهلها بخراج يؤدونه في كل سنة . وقال ابن شريح : باعها من أهلها بثمن منجم . والمشهور في كتب المغازي أن السواد فتح عنوة ، وأن عمر رضي الله عنه وظف ما ذكرنا ولم يقسمها بين الغانمين محتجا قوله تعالى { ما أفاء الله على رسوله } إلى قوله { والذين جاءوا من بعدهم } أي الغنيمة لله ولرسوله وللذين جاءوا من بعدهم ، وإنما تكون لهم بالمن بوضع الخراج والجزية ، وتلا عمر هذه الآية ولم يخالفه أحد إلا نفر يسير كبلال وسلمان ، ونقل عن أبي هريرة فدعا عمر رضي الله عنه على المنبر وقال : اللهم اكفني بلالا وأصحابه .

قال في المبسوط : فلم يحمدوا وندموا ورجعوا إلى رأيه .

ويدل على أن قسمة الأراضي ليس حتما أن مكة فتحت عنوة ولم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم أرضها ، ولهذا ذهب مالك إلى أن بمجرد الفتح تصير الأرض وقفا للمسلمين ، وهو أدرى بالأخبار والآثار ، ودعواهم أن مكة فتحت صلحا لا دليل عليها بل على نقيضها ; ألا ترى أنه ثبت في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام : { من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق بابه عليه فهو آمن } ولو كان صلحا لأمنوا كلهم به بلا حاجة إلى ذلك وإلى ما ثبت من إجارة أم هانئ من [ ص: 472 ] إجارته ومدافعتها عليها عن قتله ، { وأمره عليه الصلاة والسلام بقتل ابن خطل بعد دخوله وهو متعلق بأستار الكعبة } .

وأظهر من الكل قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين { إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والأرض لا يسفك بها دم ، إلى أن قال : فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا له إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم } فقوله بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم صريح في ذلك ( قوله وفي العقار خلاف الشافعي ) فعنده يقسم الكل ( لأن في المن ) بالأرض ( إبطال حق الغانمين ) على قولكم ( أو ملكهم ) على قولي ( فلا يجوز ) للإمام ذلك ( بلا بدل يعادله والخراج لا يعادل لقلته ) بالنسبة إلى رقبة الأرض ( بخلاف الرقاب لأن للأمام أن يبطل حقهم رأسا بالقتل والحجة عليه ما رويناه ) من فعل عمر رضي الله عنه مع وجود الصحابة فلم يعارضوه فكان إجماعا . فإن قيل : لا ينعقد الإجماع بمخالفة بلال ومن معه . أجيب بأنه لم يسوغ اجتهادهم بدليل أن عمر دعا عليهم ، ولو سوغوا لهم ذلك لما دعا على المخالف ( ولأن فيه نظرا ) للمسلمين ( لأنهم ) يصيرون ( كالأكرة العاملة للمسلمين العالمة بوجوه الزراعة مع ارتفاع المؤن ) عن المسلمين وفي هذا من النظر ما لا يخفى ( مع أنه يحظى به الذين يأتون من بعد ) فيحصل عموم النفع للمسلمين ( والخراج ، وإن قل حالا فقد جل مآلا ) فربما يتحصل منه على طول الزمان أضعاف [ ص: 473 ] قيمة الأرض

التالي السابق


الخدمات العلمية