صفحة جزء
( وإذا غلبوا على أموالنا والعياذ بالله وأحرزوها بدارهم ملكوها ) [ ص: 4 ] وقال الشافعي : لا يملكونها ; لأن الاستيلاء محظور ابتداء وانتهاء والمحظور لا ينتهض سببا للملك على ما عرف من قاعدة الخصم . [ ص: 5 ] ولنا أن الاستيلاء ورد على مال مباح فينعقد سببا للملك دفعا لحاجة المكلف كاستيلائنا على أموالهم ، وهذا لأن العصمة تثبت على منافاة الدليل لضرورة تمكن المالك من الانتفاع ، فإذا زالت المكنة عاد مباحا كما كان ، غير أن الاستيلاء لا يتحقق إلا بالإحراز بالدار ; لأنه عبارة عن الاقتدار على المحل حالا ومآلا ، [ ص: 6 ] والمحظور لغيره إذا صلح سببا لكرامة تفوق الملك وهو الثواب الآجل فما ظنك بالملك العاجل ؟ .

[ ص: 7 ] ( فإن ظهر عليها المسلمون فوجدها المالكون قبل القسمة فهي لهم بغير شيء ، وإن وجدوها بعد القسمة أخذوها بالقيمة إن أحبوا ) لقوله عليه الصلاة والسلام فيه { إن وجدته قبل القسمة فهو لك بغير شيء ، وإن وجدته بعد القسمة فهو لك بالقيمة } ولأن المالك القديم زال ملكه بغير رضاه فكان له حق الأخذ نظرا له ، إلا أن في الأخذ بعد القسمة ضررا بالمأخوذ منه بإزالة ملكه الخاص فيأخذه بالقيمة ; ليعتدل النظر من الجانبين ، والشركة قبل القسمة عامة فيقل الضرر فيأخذه بغير قيمة .


( قوله : وإذا غلبوا على أموالنا وأحرزوها بدارهم ملكوها ) وهو قول مالك وأحمد ، إلا أن [ ص: 4 ] عند مالك بمجرد الاستيلاء يملكونها . ولأحمد فيه روايتان كقولنا وكقول مالك : فيتفرع على ملكهم أموالنا بالإحراز أن لكل من دخل دار الحرب بأمان من المسلمين أن يشتري ما أخذوه فيأكله ويطأ الجارية لملكهم كل ذلك . ( وقال الشافعي : لا يملكونها ; لأن الاستيلاء ) أي استيلاءهم على أموالنا ( محظور ابتداء ) عند الأخذ ( وانتهاء ) عند صيرورتها في دارهم ; لبقاء عصمة المال لبقاء سببها وهو عصمة المالك . قال عليه الصلاة والسلام { فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم } والكفار مخاطبون بالحرمات إجماعا . ( والمحظور لا ينتهض سببا للملك على ما عرف من قاعدته ) فصار كاستيلاء المسلم على مال المسلم وكاستيلائهم على رقابنا ; ولأن النص دل عليه وهو ما روى الطحاوي مسندا إلى عمران بن الحصين قال : { كانت العضباء من سوابق الحاج ، فأغار المشركون على سرح المدينة وفيه العضباء وأسروا امرأة من المسلمين ، وكانوا إذا نزلوا يريحون إبلهم في أفنيتهم ، فلما كانت ذات ليلة قامت المرأة وقد ناموا فجعلت لا تضع يدها على بعير إلا رغا حتى أتت على العضباء ، فأتت على ناقة ذلول فركبتها ثم وجهت قبل المدينة ونذرت لئن الله عز وجل نجاها عليها لتنحرنها ، فلما قدمت عرفت الناقة ، فأتوا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته المرأة بنذرها ، فقال : بئس ما جزيتيها أو وفيتيها لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم } . وفي لفظ : فأخذ ناقته . ولو كان الكفار يملكون بالإحراز لملكتها المرأة لإحرازهم إياها . وللجمهور أوجه من النقل والمعنى ، فالأول قوله تعالى { للفقراء المهاجرين } سماهم فقراء ، والفقير من لا يملك شيئا ، فدل على أن الكفار ملكوا أموالهم التي خلفوها وهاجروا عنها ، وليس من ملك مالا وهو في مكان لا يصل إليه فقيرا بل هو مخصوص بابن السبيل ولذا عطفوا عليهم في نص الصدقة .

وأما ما استدل به الشارحون مما في الصحيحين أنه { قيل له عليه الصلاة والسلام في الفتح أين تنزل غدا بمكة ؟ فقال : وهل ترك لنا عقيل من منزل . وروي أتنزل غدا بدارك ؟ فقال : وهل ترك لنا عقيل من رباع } ، وإنما قاله ; لأن عقيلا كان استولى عليه وهو على كفره فغير صحيح ; لأن الحديث إنما هو دليل أن المسلم لا يرث الكافر ، فإن عقيلا إنما استولى على الرباع بإرثه إياها من أبي طالب ، فإنه توفي وترك عليا وجعفرا مسلمين وعقيلا وطالبا كافرين فورثاه ، لا أن الديار كانت للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلما هاجر استولوا عليها فملكوها بالاستيلاء .

وروى أبو داود في مراسيله عن تميم بن طرفة قال : { وجد رجل مع رجل ناقة له ، فارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأقام البينة أنها له ، وأقام الآخر البينة أنه اشتراها من العدو فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن شئت أن تأخذ بالثمن الذي اشتراها به فأنت أحق ، وإلا فخل عن ناقته } والمرسل حجة عندنا وعند أكثر أهل العلم . وأخرج الطبراني مسندا عن تميم بن طرفة عن جابر بن سمرة . وفي سنده ياسين الزيات مضعف . وأخرج الدارقطني ثم البيهقي في سننهما عن ابن عباس { أنه عليه الصلاة والسلام قال فيما أحرزه العدو فاستنقذه المسلمون منهم : إن وجده صاحبه قبل أن يقسم فهو أحق به ، وإن وجده قد قسم فإن شاء أخذه بالثمن } وضعف بالحسن بن عمارة . وأخرج الدارقطني عن ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { من وجد ماله في الفيء قبل أن يقسم فهو له ، ومن وجده بعدما قسم فليس له شيء } [ ص: 5 ] وضعف بإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة ثم أخرجه بطريق آخر فيه رشدين وضعفه به .

وأخرجه الطبراني عن ابن عمر مرفوعا { من أدرك ماله في الفيء قبل أن يقسم فهو له ، وإن أدركه بعد أن يقسم فهو أحق به بالثمن } وفيه ياسين ضعف به . قال الشافعي : واحتجوا أيضا بأن عمر بن الخطاب قال : من أدرك ما أخذ العدو قبل أن يقسم فهو له ، وما قسم فلا حق له فيه إلا بالقيمة . قال : وهذا إنما روي عن الشعبي عن عمر وعن رجاء بن حيوة عن عمر مرسلا وكلاهما لم يدرك عمر . وروى الطحاوي بسنده إلى قبيصة بن ذؤيب أن عمر بن الخطاب قال : فيما أخذه المشركون فأصابه المسلمون فعرفه صاحبه : أي أدركه قبل أن يقسم فهو له ، وإن جرت فيه السهام فلا شيء له . وروي فيه أيضا عن أبي عبيدة مثل ذلك . وروي بإسناده إلى سليمان بن يسار عن زيد بن ثابت مثله .

وروي أيضا بإسناده إلى قتادة عن خلاس أن علي بن أبي طالب قال : من اشترى ما أحرز العدو فهو جائز . والعجب ممن يشك بعد هذه الكثرة في نفي أصل هذا الحكم ، ويدور في ذلك بين تضعيف بالإرسال أو التكلم في بعض الطرق ، فإن الظن بلا شك يقع في مثل ذلك أن هذا الحكم ثابت ، وأن هذا الجمع من علماء المسلمين لم يتعمدوا الكذب . ويبعد أنه وقع غلط للكل في ذلك ، وتوافقوا في هذا الغلط ، بل لا شك أن الراوي الضعيف إذا كثر مجيء معنى ما رواه يكون مما أجاد فيه ، وليس يلزم الضعيف الغلط دائما ، ولا أن يكون أكثر حاله السهو والغلط .

هذا مع اعتضاده بما ذكرنا من الآية والحديث من الصحيح . وحديث العضباء كان قبل إحرازهم بدار الحرب ; ألا يرى إلى قوله وكانوا إذا نزلوا منزلا إلخ فإنه يفهم أنها فعلت ذلك وهم في الطريق ، وأما المعنى فما أشار إليه المصنف بقوله : ( الاستيلاء ورد على مال مباح ) يعني الاستيلاء الكائن بعد الإحراز في حال البقاء ورد على مال مباح ( فينعقد سببا للملك كاستيلائنا على أموالهم ) فإنه ما تم لنا الملك فيه إلا لهذا المعنى ( وهذا ) أي كونه مباحا إذ ذاك ( لأن العصمة تثبت على منافاة الدليل ) وهو قوله تعالى { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } فإنه يقتضي إباحة الأموال بكل حال ، وإنما تثبت ( لضرورة تمكن المحتاج من الانتفاع ، فإذا زالت المكنة ) من الانتفاع ( عاد مباحا ) وزوالها على التحقيق واليقين بتباين الدارين ، فإن الإحراز حينئذ يكون تاما وهو ( الاقتدار على المحل حالا ومآلا ) بالادخار إلى وقت حاجته ، بخلاف أهل البغي إذا أحرزنا أموالهم لا تزول أملاكهم ; لأن [ ص: 6 ] العصمة ومكنة الانتفاع ثابتة مع اتحاد الدار والملة من وجه فلا يزول الملك بالشك .

ثم أجاب عن قوله : المحظور لا يصلح سببا للملك . فقال : ذاك في المحظور لنفسه ( أما المحظور لغيره فلا فإنا وجدناه صلح سببا لكرامة تفوق الملك وهو الثواب ) كما في الصلاة في الأرض المغصوبة ( فما ظنك بالملك الدنيوي ) والقياس على استيلائهم على رقابنا فاسد ; لأنها ليست مالا ، وكذا على غصب المسلم مال المسلم ، وذلك ; لأنه ليس فيه إحراز يزيل الملك على ما ذكرنا في الباغي . وأورد عليه أن العصمة إن أزيلت بالإحراز بدارهم لا يكون الاستيلاء محظورا ليحتاج إلى هذا الكلام ، وإن لم تكن زالت لم تصر ملكا لهم .

وأجيب بأن العصمة المؤثمة باقية ; لأنها بالإسلام ، والمقومة زالت ; لأنها بالدار . وقد يقال إن كان الملك زال تبعا لزوال القيمة صار مباحا وعاد الأول ، وإن لم يسقط لزم الثاني فالمدار الإباحة وعدمها . ثم الوجه أن لا حاجة إلى إثبات أنه محظور لغيره ، وذلك ; لأن الاستيلاء إن أريد به ابتداء الأخذ أو إدخاله في دار الحرب يجب كونه قبيحا لعينه ; لأنه ظلم وهو قبيح لنفسه فهو محرم لنفسه ، وإن كان تحريم الغصب ; لقيام ملك الغير فهو قبيح لنفسه على ما عرف ، كذا أورد في الأصول على كون الغصب يفيد الملك ذلك . أجيب بأن المفيد له هو الضمان على ما في توجيهه من الكلام ، بل نقول : ليس الاستيلاء الأول سببا لملكه ولا الإدخال إلى دار الحرب ، بل الإدخال سبب زوال مكنة الانتفاع وزوال مكنة الانتفاع سبب الإباحة ، وهو لا يتصف بحل ولا حرمة ; لأنه ليس من الأفعال . ثم الاستيلاء الكائن في البقاء على ذلك المال المباح سبب ملك الكافر ، وهذا الاستيلاء ليس بمحرم ; لأنه على مال مباح ، وإباحته مسببة عما ليس بمحرم ، وهو زوال المكنة ، فأما الأخذ وما يليه فأسباب لغير ذلك مما ذكرنا ، فكان الوجه منع أن سبب الملك هنا محظور لنفسه أو غيره بل هو أمر مباح .

والسبب البعيد لا يؤثر في المسبب الأخير ; لأنه مسبب عن غيره على ما عرف من أن العلة البعيدة لا أثر لها في المعلول ، بخلاف الغصب فإنه لا يستعقب إباحة أصلا . وقول بعضهم في التقرير : لا نسلم أن الاستيلاء ورد على مال محظور معصوم ; لأن استيلاءهم إنما يتحقق بعد الإحراز وبعده ارتفعت العصمة فورد على مال مباح ، كمال المسلم ثمة إذا لم يهاجر إلينا يقتضي أن ماله مباح ، وليس كذلك بل ماله معصوم عليه غير العقار على الخلاف المتقدم ، [ ص: 7 ] وسببه أنه ليس في يده بل يكفي المنع بأن يقال : لا نسلم أنه محظور ; لأنه ورد على مال مباح إلخ .

( قوله : فإن ظهر عليها المسلمون فوجدها المالكون قبل القسمة فهي لهم بغير شيء . وإن وجدوها بعد القسمة أخذوها بالقيمة إن أحبوا ; لقوله عليه الصلاة والسلام فيه إن وجدته إلخ ) وتقدم الكلام في الحديث ونظائره . فإن قيل : أخذه قبل القسمة إذا كان حكما لازما يقتضي قيام ملكه . أجيب بالمنع فإن الواهب له أن يأخذ ما وهبه بعد زوال ملكه عنه شرعا ، وكذا الشفيع يقدم على المالك المشتري في الأخذ ولا ملك له . وحاصله أن في الشرع صورا يقدم فيها غير المالك على المالك كما أريناك فلأن يقدم غير المالك على غير المالك أولى وهو ما ذكرنا ، فإنه لا ملك لأحد في المغنوم قبل القسمة فجبر ضرورة القوي بضرر يسير ، فإن الشركة أولا في الحق دون الملك ، وثانيا هي شركة عامة فيخف ضرر كل واحد خفة كثيرة .

وصورة الشفيع شبيهة أخذه بالقيمة بعد القسمة ; لتقدمه في إثبات ملك منتف بإزالة ملك موجود بالثمن دفعا لضرر الجوار أو الخلطة مع دفع ضرر إتلاف مال الآخر ، وأشبه بالتاجر إذا دخل دار الحرب فاشترى ما استولوا عليه من مال المسلم فإنه إزالة ملك ثابت بعوض بإحداث ملك زائل بعوض بقدره وهي المسألة التي ذكرناها .

وهذا ; لأن الشارع لما لم يزل الملك الخاص الحادث للغازي في مقابلة غناء حصل له لا بمقابلة مال بذله إلا ببدله ; ليعتدل النظر ويخف الضرر من الجانبين ، فلأن لا يزيله برفع ملك حصل بعوض بإحداث ملك إلا بعوض ; ليعتدل من الجانبين أولى .

التالي السابق


الخدمات العلمية