صفحة جزء
[ ص: 48 ] قال : ( وتوضع الجزية على أهل الكتاب والمجوس ) لقوله تعالى { من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية } الآية ، { ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية على المجوس } . قال : ( وعبدة الأوثان من العجم ) وفيه خلاف الشافعي . هو يقول : إن القتال واجب لقوله تعالى { وقاتلوهم } إلا أنا عرفنا جواز تركه في حق أهل الكتاب بالكتاب وفي حق المجوس بالخبر فبقي من وراءهم على الأصل . ولنا أنه يجوز استرقاقهم فيجوز ضرب الجزية عليهم إذ كل واحد منهما يشتمل على سلب النفس منهم فإنه يكتسب ويؤدي إلى المسلمين ونفقته في كسبه ، [ ص: 49 ] ( وإن ظهر عليهم قبل ذلك فهم ونساؤهم وصبيانهم فيء ) ; لجواز استرقاقهم ( ولا توضع على عبدة الأوثان من العرب ولا المرتدين ) لأن كفرهما قد تغلظ ، أما مشركو العرب فلأن النبي صلى الله عليه وسلم نشأ بين أظهرهم والقرآن نزل بلغتهم فالمعجزة في حقهم أظهر .

وأما المرتد ; فلأنه كفر بربه بعدما هدي للإسلام ووقف على محاسنه فلا يقبل من الفريقين إلا الإسلام أو السيف زيادة في العقوبة . وعند الشافعي رحمه الله يسترق مشركو العرب ، [ ص: 50 ] وجوابه ما قلنا ( وإذا ظهر عليهم فنساؤهم وصبيانهم فيء ) لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه استرق نسوان بني حنيفة وصبيانهم لما ارتدوا وقسمهم بين الغانمين ( ومن لم يسلم من رجالهم قتل ) لما ذكرنا .


( قوله وتوضع الجزية على أهل الكتاب ) اليهود . ويدخل فيهم السامرة فإنهم يدينون بشريعة موسى صلى الله عليه وسلم إلا أنهم يخالفونهم في فروع . والنصارى ويدخل فيهم الفرنج والأرمن لقوله تعالى { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وأما الصابئون فعلى الخلاف من قال هم من النصارى أو قال هم من اليهود فهم من أهل الكتاب ، ومن قال يعبدون الكواكب فليسوا من الكتابيين بل كعبدة الأوثان . وفي فتاوى قاضي خان : وتؤخذ : أي الجزية من الصابئة عند أبي حنيفة خلافا لهما ، وأطلق في أهل الكتاب فشمل أهل الكتاب من العرب والعجم .

وأما المجوس عبدة النار ففي البخاري : { ولم يكن عمر رضي الله عنه أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر } وهذا قول المصنف ( ووضع عليه الصلاة والسلام الجزية على المجوس ) وهجر بلدة في البحرين ( قوله وعبدة الأوثان ) بالجر : أي وتوضع على عبدة الأوثان من العجم ( وفيه خلاف الشافعي . هو يقول القتال واجب لقوله تعالى { وقاتلوهم } إلا أنا عرفنا جواز تركه ) إلى الجزية ( في حق أهل الكتاب بالقرآن ) أعني ما تلوناه من قوله تعالى { حتى يعطوا الجزية } ( وفي المجوس بالخبر ) الذي ذكرناه في صحيح البخاري ( فبقي من وراءهم على الأصل . ولنا أنه يجوز استرقاقهم فيجوز ضرب الجزية عليهم ) بجامع أن كلا من الاسترقاق والجزية ( يشتمل على سلب النفس منهم ) أما الاسترقاق فظاهر أنه تصير منفعة نفسه لنا ، وكذا الجزية ( فإنه يكتسب ويؤدي إلى المسلمين ) والحال أن ( نفقته في كسبه ) فقد أدى حاجة نفسه إلينا أو بعضها ، فهذا المعنى يوجب تخصيص عموم وجوب القتال الذي [ ص: 49 ] استدل به ، وذلك لأنه عام مخصوص بإخراج أهل الكتاب ، والمجوس عند قبولهم الجزية كما ذكر فجاز تخصيصه بعد ذلك بالمعنى .

وإنما لم تضرب الجزية على النساء والصبيان مع جواز استرقاقهم لأنهم صاروا أتباعا لأصولهم في الكفر فكانوا أتباعا في حكمهم ، فكأن الجزية على الرجل وأتباعه في المعنى إن كان له أتباع ، وإلا فهي عنه خاصة ( قوله : وإن ظهر عليهم ) أي على من تقدم ذكرهم من أهل الكتاب والمجوس وعبدة الأوثان من العجم ( قبل ذلك ) أي قبل وضع الجزية ( فهم فيء ) وللإمام الخيار بين الاسترقاق وضرب الجزية . ( قوله : ولا توضع ) الجزية ( على عبدة الأوثان من العرب ولا المرتدين ; لأن كفرهما ) يعني مشركي العرب والمرتدين ( قد تغلظ ) فلم يكونوا في معنى العجم ( أما العرب فلأن القرآن نزل بلغتهم فالمعجزة في حقهم أظهر ) فكان كفرهم والحالة هذه أغلظ من كفر العجم ( وأما المرتدون فلأن كفرهم بعدما هدوا للإسلام ووقفوا على محاسنه ) فكان كذلك ( فلا يقبل من الفريقين إلا الإسلام أو السيف زيادة في العقوبة ) لزيادة الكفر ( وعند الشافعي يسترق مشركو العرب ) وهو قول مالك وأحمد لأن الاسترقاق إتلاف حكما فيجوز كما يجوز إتلاف نفسه بالقتل . ولنا قوله تعالى { تقاتلونهم أو يسلمون } أي إلى أن يسلموا .

وروي عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال : { لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف } وذكر محمد بن الحسن عن يعقوب عن الحسن عن مقسم عن ابن عباس وقال " أو القتل " [ ص: 50 ] مكان أو السيف . وعنه عليه الصلاة والسلام { لا رق على عربي } وأخرجه البيهقي عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لو كان ثابتا على أحد من العرب رق لكان اليوم } قال المصنف ( وجوابه ما قلنا ) يعني من أن كفره أغلظ فلا يكون له حكم الأخف منه ( قوله : وإذا ظهر عليهم ) أي على مشركي العرب والمرتدين ( فنساؤهم وصبيانهم فيء ) يسترقون { لأنه عليه الصلاة والسلام استرق ذراري أوطاس وهوازن } وأبو بكر استرق بني حنيفة . أسند الواقدي في كتاب الردة له في قتال بني حنيفة عن محمود بن لبيد قال : ثم إن خالد بن الوليد صالحهم على أن يأخذ منهم الصفراء والبيضاء والكراع والسلاح ونصف السبي ، ثم دخل حصونهم صلحا فأخرج السلاح والكراع والأموال والسبي ، ثم قسم السبي قسمين ، وأقرع على القسمين فخرج سهمه على أحدهما وفيه مكتوب لله .

قال الواقدي : وحدثني أبو الزناد عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت : قد رأيت أم محمد بن علي بن أبي طالب وكانت من سبي بني حنيفة فلذلك سميت الحنفية ويسمى ابنها محمد بن الحنفية . قال : وحدثني عبد الله بن نافع عن أبيه قال : كانت أم زيد بن عبد الله بن عمر من ذلك السبي ، وحنيفة أبو حي من العرب سمي به لأن جذيمة ضربه حين التقيا فحنف رجله وضرب حنيفة يده فجذمها فسمي جذيمة وحنيفة بن نجيحة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل .

واعلم أن ذراري المرتدين ونساءهم يجبرون على الإسلام بعد الاسترقاق بخلاف ذراري عبدة الأوثان لا يجبرون . وأما الزنادقة قالوا : لو جاء زنديق قبل أن يؤخذ فأخبر أنه زنديق وتاب تقبل توبته ، فإن أخذ ثم تاب لا تقبل توبته ويقتل ; لأنهم باطنية يعتقدون في الباطن خلاف ذلك فيقتل ولا تؤخذ منه الجزية .

التالي السابق


الخدمات العلمية