صفحة جزء
( فصل )

( ولا يجوز إحداث بيعة ولا كنيسة في دار الإسلام ) ; لقوله عليه الصلاة والسلام { لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة } والمراد إحداثها [ ص: 58 ] ( وإن انهدمت البيع والكنائس القديمة أعادوها ) لأن الأبنية لا تبقى دائما ، ولما أقرهم الإمام فقد عهد إليهم الإعادة إلا أنهم لا يمكنون من نقلها ; لأنه إحداث في الحقيقة ، [ ص: 59 ] والصومعة للتخلي فيها بمنزلة البيعة ، بخلاف موضع الصلاة في البيت ; لأنه تبع للسكنى ، وهذا في الأمصار دون القرى ; لأن الأمصار هي التي تقام فيها الشعائر فلا تعارض بإظهار ما يخالفها .

وقيل في ديارنا يمنعون من ذلك في القرى أيضا ; لأن فيها بعض الشعائر ، والمروي عن صاحب المذهب في قرى الكوفة لأن أكثر أهلها أهل الذمة . وفي أرض العرب يمنعون من ذلك في أمصارها وقراها [ ص: 60 ] لقوله عليه الصلاة والسلام { لا يجتمع دينان في جزيرة العرب } .


( فصل ) لما كانت هذه الأحكام تتعلق بالذمي باعتبار غيره وما مضى باعتبار نفسه قدم تلك . ( قوله ولا يجوز إحداث بيعة ) بكسر الباء ( ولا كنيسة في دار الإسلام ) وهما متعبدا اليهود والنصارى ، ثم غلبت الكنيسة لمتعبد اليهود [ ص: 58 ] والبيعة لمتعبد النصارى ، وفي ديار مصر لا يستعمل لفظ البيعة بل الكنيسة لمتعبد الفريقين ، ولفظ الدير للنصارى خاصة . وقيد المصنف عموم دار الإسلام بالأمصار دون القرى ; لأن الأمصار هي التي تقام فيها الشعائر ، فإحداثها فيها معارضة بإظهار ما يخالفها فلا يجوز ، بخلاف القرى .

ثم ذكر أن في قرى ديارنا أيضا لا تحدث في هذا الزمان . ثم قال القدوري : ( وإن انهدمت البيع والكنائس القديمة أعادوها ) قال المصنف : ( لأن الأبنية لا تبقى دائما ، ولما أقرهم الإمام فقد عهد إليهم الإعادة ضمنا غير أنهم لا يمكنون من نقلها من مكان إلى آخر ; لأنه إحداث ) في ذلك المكان المنقول إليه فلا يجوز ، وفي هذا التعليل إشارة إلى أن ذلك إذا كان بإقرار الإمام إياهم على ذلك ، وذلك إذا صالحهم على إقرارهم على أراضيهم سواء كان إماما في زمن الصحابة والتابعين أو بعدهم .

قيل أمصار المسلمين ثلاثة : أحدها ما مصره المسلمون كالكوفة والبصرة وبغداد وواسط ، فلا يجوز فيها إحداث بيعة ولا كنيسة ولا مجتمع لصلاتهم ولا صومعة بإجماع أهل العلم ، ولا يمكنون فيه من شرب الخمر واتخاذ الخنازير وضرب الناقوس . وثانيها ما فتحه المسلمون عنوة فلا يجوز فيها إحداث شيء بالإجماع ، وما كان فيها شيء من ذلك هل يجب هدمه ؟ فقال مالك والشافعي في قول وأحمد في رواية : يجب . وعندنا جعلهم ذمة أمرهم أن يجعلوا كنائسهم مساكن ، ويمنع من صلاتهم فيها ولكن لا تهدم ، وهو قول للشافعي ورواية عن أحمد ; لأن الصحابة فتحوا كثيرا من البلاد عنوة ، ولم يهدموا كنيسة ، ولا ديرا ، ولم ينقل ذلك قط . وثالثها ما فتح صلحا ، فإن صالحهم على أن الأرض لهم والخراج لنا جاز إحداثهم ، وإن صالحهم على أن الدار لنا ويؤدون الجزية فالحكم في الكنائس على ما يوقع عليه الصلح ، فإن صالحهم على شرط تمكين الإحداث لا يمنعهم ، إلا أن الأولى أن لا يصالحهم إلا على ما وقع عليه صلح عمر رضي الله عنه من عدم إحداث شيء منها ، وإن وقع الصلح مطلقا لا يجوز الإحداث ولا يتعرض للقديمة ويمنعون من ضرب الناقوس وشرب الخمر واتخاذ الخنزير بالإجماع انتهى .

وقوله : يمنعون من شرب الخمر : أي التجاهر به وإظهاره . وفي المحيط : لو ضربوا الناقوس في جوف كنائسهم لا يمنعون انتهى . وقال محمد : كل قرية من قرى أهل الذمة أو مصر أو حديقة لهم أظهروا فيها شيئا من الفسق مثل الزنا والفواحش التي يحرمونها في دينهم يمنعون منه ، وكذا عن المزامير والطنابير والغناء ، ومن كسر شيئا من ذلك لم يضمن . واعلم أن البيع والكنائس القديمة في السواد لا تهدم على الروايات كلها ، وأما في الأمصار فاختلف كلام محمد ، فذكر في العشر والخراج تهدم القديمة ، وذكر في الإجارة أنها لا تهدم وعمل الناس على هذا ، فإنا رأينا كثيرا منها توالت عليها أئمة وأزمان وهي باقية لم يأمر بهدمها إمام فكان متوارثا من عهد الصحابة رضي الله عنهم ، وعلى هذا لو مصرنا برية فيها دير [ ص: 59 ] أو كنيسة فوقع في داخل السور ينبغي أن لا يهدم ; لأنه كان مستحقا للأمان قبل وضع السور ، فيحمل ما في جوف القاهرة من الكنائس على ذلك ; لأنها كانت فضاء فأدار العبيديون عليها السور ثم فيها الآن كنائس ، ويبعد من إمام تمكين الكفار من إحداثها جهارا في جوف المدن الإسلامية ، فالظاهر أنها كانت في الضواحي فأدير السور عليها فأحاط بها ، وعلى هذا فالكنائس الموجودة الآن في دار الإسلام غير جزيرة العرب كلها ينبغي أن لا تهدم ; لأنها إن كانت في أمصار قديمة فلا شك أن الصحابة أو التابعين حين فتحوا المدينة علموا بها وبقوها ، وبعد ذلك ينظر فإن كانت البلدة فتحت عنوة حكمنا بأنهم بقوها مساكن لا معابد فلا تهدم ولكن يمنعون من الاجتماع فيها للتقرب ، وإن عرف أنها فتحت صلحا حكمنا بأنهم أقروها معابد فلا يمنعون من ذلك فيها بل من الإظهار .

وانظر إلى قول الكرخي : إنهم إذا حضر لهم عيد يخرجون فيه صلبانهم وغير ذلك فليصنعوا في كنائسهم القديمة من ذلك ما أحبوا ، فأما أن يخرجوا ذلك من الكنائس حتى يظهر في المصر فليس لهم ذلك ، ولكن ليخرجوا خفية من كنائسهم ، واستدل المصنف على عدم الإحداث بقوله صلى الله عليه وسلم { لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة } . قال المصنف رحمه الله : المراد إحداثها ، وهذا ; لأن البيعة قد تحققت كثيرا من الصحابة في الصلح . وفي رواية البيهقي تصريح بذلك في سننه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا خصاء في الإسلام ولا بنيان كنيسة } وضعفه . ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام : حدثنا عبيد الله بن صالح ، حدثنا الليث بن سعد ، حدثني توبة بن النمر الحضرمي قاضي مصر عمن أخبره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة } قال : وروى أبو الأسود عن ابن لهيعة عن يزيد بن حبيب عن أبي الخير قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا كنيسة في الإسلام ولا خصاء .

وروى ابن عدي في الكامل بسنده إلى عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا تبنى كنيسة في الإسلام ولا يبنى ما خرب منها } وأعل بسعيد بن سنان ، وإذا تعددت طرق الضعيف يصير حسنا .

ثم قيل : المراد بالخصاء نزع الخصيتين ، وقيل كناية عن التخلي عن إتيان النساء ( والصومعة ) وهو ما يبنى ( للتخلي ) عن الناس والانقطاع ( فيها ) لهم مثلها فيمنع أيضا وكذا يمنع بيت نار .

( والمروي عن صاحب المذهب ) يعني أبا حنيفة رضي الله عنه كان ( في قرى الكوفة ; لأن أكثر أهلها أهل ذمة ) بخلاف قرى المسلمين اليوم ، ولذا قال شمس الأئمة في شرحه في كتاب الإجارات : الأصح عندي أنهم يمنعون عن ذلك في السواد ، وإن كان هو في السير الكبير قال : إن كانت قرية غالب أهلها أهل الذمة لا يمنعون ، وأما القرية التي سكنها المسلمون اختلف المشايخ فيها على ما ذكرنا ، فصار إطلاق منع الإحداث هو المختار فصدق تعميم القدوري منعها في دار الإسلام . ( قوله : وفي أرض العرب يمنعون من ذلك في أمصارها وقراها ) فلا يحدث فيها كنيسة ولا تقر ; لأنهم لا يمكنون من السكنى بها فلا فائدة في إقرارها ، إلا أن تتخذ دار سكنى ولا يباع بها [ ص: 60 ] خمر ولا في قرية منها ولا في ماء من مياه العرب ويمنعون من أن يتخذوا أرض العرب مسكنا ووطنا ، بخلاف أمصار المسلمين التي ليست في جزيرة العرب يمكنون من سكناها ولا خلاف في ذلك . وذلك ( لقوله صلى الله عليه وسلم { لا يجتمع دينان في جزيرة العرب } ) أخرج إسحاق بن راهويه في مسنده : أخبرنا النضر بن شميل ، حدثنا صالح بن أبي الأحوص ، حدثنا الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي مات فيه { لا يجتمع دينان في جزيرة العرب } ورواه عبد الرزاق قال : أنبأنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يجتمع بأرض العرب ، أو قال بأرض الحجاز دينان } ورواه في الزكاة وزاد فيه : " فقال عمر لليهود : من كان منكم عنده عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأت به ، وإلا فإني مجليكم ، قال : فأجلاهم عمر " . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك في مرض موته . قال الدارقطني في علله : هذا صحيح ، ورواه مالك في الموطإ . قال مالك : قال ابن شهاب : ففحص عمر عن ذلك حتى أتاه اليقين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا يجتمع دينان في جزيرة العرب } فأجلى يهود خيبر وأجلى يهود نجران وفدك .

وفي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما { لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه قال : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب } وجزيرة العرب من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول ، وأما العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام ، وسميت جزيرة لانجزار المياه التي حواليها عنها كبحر البصرة وعمان وعدن والفرات . وقيل ; لأن حواليها بحر الحبش وبحر فارس ودجلة والفرات . وقال الأزهري : سميت بذلك ; لأن بحر فارس وبحر السودان أحاطا بجانبها الجنوبي ، وأحاط بالجانب الشمالي دجلة والفرات . وقال المنذري في مختصره : قال مالك : جزيرة العرب المدينة نفسها ، وروي أنها الحجاز واليمن واليمامة ، وحكى البخاري عن المغيرة قال : هي أرض مكة والمدينة .

التالي السابق


الخدمات العلمية