صفحة جزء
[ ص: 68 ] باب أحكام المرتدين . قال ( وإذا ارتد المسلم عن الإسلام والعياذ بالله عرض عليه الإسلام ، فإن كانت له شبهة كشفت عنه ) لأنه عساه اعترته شبهة فتزاح ، وفيه دفع شره بأحسن الأمرين ، إلا أن العرض على ما قالوا غير واجب ; لأن الدعوة بلغته . قال ( ويحبس ثلاثة أيام ، فإن أسلم وإلا قتل . وفي الجامع الصغير : المرتد يعرض عليه الإسلام فإن أبى قتل ) وتأويل الأول أنه يستمهل فيمهل ثلاثة أيام [ ص: 69 ] لأنها مدة ضربت لإبلاء الأعذار . وعن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه يستحب أن يؤجله ثلاثة أيام طلب ذلك أو لم يطلب . وعن الشافعي أن على الإمام أن يؤجله ثلاثة أيام ، ولا يحل له أن يقتله قبل ذلك ; لأن ارتداد المسلم يكون عن شبهة ظاهرا فلا بد من مدة يمكنه التأمل فقدرناها بالثلاثة . ولنا قوله تعالى { فاقتلوا المشركين } من غير قيد الإمهال ، وكذا قوله عليه الصلاة والسلام { من بدل دينه فاقتلوه } ولأنه كافر حربي بلغته الدعوة فيقتل للحال من غير استمهال ، وهذا ; لأنه لا يجوز تأخير الواجب لأمر موهوم ، ولا فرق بين الحر والعبد لإطلاق الدلائل .

[ ص: 70 ] وكيفية توبته أن يتبرأ عن الأديان كلها سوى الإسلام ; لأنه لا دين له ، ولو تبرأ عما انتقل إليه كفاه لحصول المقصود .


( باب أحكام المرتدين ) لما فرغ من بيان أحكام الكفر الأصلي شرع في بيان أحكام الكفر الطارئ . والمرتد : هو الراجع عن دين الإسلام . ( قوله : وإذا ارتد المسلم عن الإسلام والعياذ بالله عرض عليه الإسلام ، فإن كانت له شبهة ) أبداها ( كشفت عنه ; لأنه عساه اعترته ) أي عرضت له ( شبهة فتزاح عنه ، وفيه دفع شره بأحسن الأمرين ) وهما القتل والإسلام وأحسنهما الإسلام . ولما كان ظاهر كلام القدوري وجوب العرض قال : ( إلا أن العرض على ما قالوا ) أي المشايخ ( غير واجب ) بل مستحب ( لأن الدعوة قد بلغته ) وعرض الإسلام هو الدعوة إليه ، ودعوة من بلغته الدعوة غير واجبة بل مستحبة ( قوله : ويحبس ثلاثة أيام ، فإن أسلم ) فيها ( وإلا قتل ) وهذا اللفظ أيضا من القدوري يوجب وجوب الإنظار ثلاثة أيام على ما عرف من الأخبار في مثله ، فذكر عبارة الجامع وهو قوله : ( وفي الجامع الصغير : المرتد يعرض عليه الإسلام ، فإن أبى قتل ) أي مكانه فإنه يفيد أن إنظاره الأيام الثلاثة [ ص: 69 ] ليس واجبا ولا مستحبا .

وإنما تعينت الثلاثة ( لأنها مدة ضربت لإبلاء الأعذار ) بدليل حديث حبان بن منقذ { في الخيار ثلاثة أيام } ضربت للتأمل لدفع الغبن ، وقصة موسى صلى الله عليه وسلم مع العبد الصالح { إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني } وهي الثالثة إلى قوله { قد بلغت من لدني عذرا } وعن عمر رضي الله عنه أن رجلا أتاه من قبل أبي موسى فقال له : هل من مغربة خبر ؟ فقال نعم . رجل ارتد عن الإسلام فقتلناه ، فقال له : هلا حبستموه في بيت ثلاثة أيام وأطعمتموه في كل يوم رغيفا لعله يتوب ، ثم قال : اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم أرض . أخرجه مالك في الموطإ ، لكن ظاهر تبري عمر رضي الله عنه يقتضي الوجوب .

ثم قال المصنف : ( تأويل الأول ) وهو قول القدوري الدال على وجوب إمهال الأيام الثلاثة ( أن يستمهل فيمهل ) وظاهر المبسوط الوجوب فإنه قال إذا طلب التأجيل أجل ثلاثة أيام ; لأن الظاهر أنه دخل عليه شبهة فيجب علينا إزالة تلك الشبهة ، أو أنه يحتاج إلى التفكر ; ليتبين له الحق فلا بد من المهلة ، وإذا استمهل كان على الإمام أن يمهله ، ومدة النظر جعلت في الشرع ثلاثة أيام كما في الخيار ، ثم قال في حديث عمر المذكور الدال على الوجوب : تأويله أنه لعله طلب التأجيل ( وعن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه يستحب أن يؤجله ثلاثة أيام طلب ذلك أو لم يطلب . وعن الشافعي أن على الإمام أن يؤجله ثلاثة أيام ، ولا يحل قتله قبلها ; لأن ارتداد المسلم يكون عن شبهة ظاهرا فلا بد من مدة يمكنه فيها التأمل فقدرناها بثلاثة أيام ) لما ذكرنا .

والصحيح من قول الشافعي أنه إن تاب في الحال وإلا قتل ; لحديث معاذ رضي الله عنه ، وقوله صلى الله عليه وسلم { من بدل دينه فاقتلوه } من غير تقييد بإنظار وهو اختيار ابن المنذر ، وهذا إن أريد به عدم وجوب الإنظار فكمذهبنا ، والاستدلال مشترك ، ومن الأدلة أيضا قوله تعالى { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وهذا كافر حربي ، وإن كان أريد به نفي استحباب الإمهال فنقول هذه الأوامر مطلقة وهي لا تقتضي الفور فيجوز التأخير على ما عرف ، ثم ثبت وجوبه بحديث عمر رضي الله عنه . وقول المصنف : ( وهذا ; لأنه لا يجوز تأخير الواجب لأمر موهوم ) ليس بجيد إذ يقتضي كراهة الإمهال ثلاثة أيام ، وهو يخالف المذهب ويخالف ما ذكرنا من أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور إلا إذا خيف الفوات . فإن قيل : لا نسلم أن الأوامر المذكورة مطلقة بل مفيدة للعموم للفاء في قوله " فاقتلوه " ; لأنها تفيد الوصل والتعقيب . قلنا : تلك الفاء العاطفة وهي فاء السبب . فإن قيل : فتفيد الوصل باعتبار أن المعلول لا يتأخر عن العلة . قلنا : المعلول وهو الحكم الشرعي وهو إيجاب قتله لم يتأخر عن علته المثيرة له وهي كفره ، وأما إيجاب الامتثال على الفور فشيء آخر .

( ولا فرق ) في وجوب قتل المرتد ( بين كون المرتد حرا أو عبدا ) وإن كان يتضمن قتله إبطال حق المولى بالإجماع ( وإطلاق الدلائل ) [ ص: 70 ] التي ذكرناها ( وكيفية توبته أن يتبرأ عن الأديان كلها سوى دين الإسلام ; لأنه لا دين له ) قيل هو أن يقول تبت ورجعت إلى دين الإسلام وأنا بريء من كل دين غير دين الإسلام . قيل لكن هذا بعد أن يأتي بالشهادتين . والإقرار بالبعث والنشور مستحب ، وبه قالت الأئمة الثلاثة . ( ولو تبرأ عما انتقل إليه كفاه لحصول المقصود ) وفي شرح الطحاوي : سئل أبو يوسف عن الرجل كيف يسلم ؟ فقال : يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، ويقر بما جاء به من عند الله ، ويتبرأ من الدين الذي انتحله ، وإن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وقال : ولم أدخل في هذا الدين قط وأنا بريء منه : أي من الدين الذي ارتد إليه فهي توبة انتهى .

وقوله : قط يريد به معنى أبدا ; لأن قط ظرف لما مضى لا لما يستقبل . وفي شرح الطحاوي : إسلام النصراني أن يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، ويتبرأ من النصرانية ، واليهودي كذلك يتبرأ من اليهودية ، وكذا في كل ملة . وأما مجرد الشهادتين فلا يكون مسلما ; لأنهم يقولون بذلك غير أنهم يدعون خصوص الرسالة إلى العرب فيصدق أنه رسول الله ولا يتم الإسلام به ، هذا فيمن بين أظهرنا منهم . وأما من في دار الحرب لو حمل عليه مسلم فقال محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مسلم ، أو قال دخلت في دين الإسلام أو في دين محمد صلى الله عليه وسلم فهو دليل إسلامه ، فكيف إذا أتى بالشهادتين ; لأن في ذلك الوقت ضيقا . وقوله هذا إنما أراد به الإسلام الذي يدفع عنه القتل الحاضر فيحمل عليه ويحكم به بمجرد ذلك فلو ارتد بعد ذلك قتلناه .

ولو ارتد بعد إسلامه ثانيا قبلنا توبته أيضا وكذا ثالثا ورابعا ، إلا أن الكرخي قال : فإن عاد بعد الثالثة يقتل إن لم يتب في الحال ولا يؤجل ، فإن تاب ضربه ضربا وجيعا ولا يبلغ به الحد ثم يحبسه ولا يخرجه حتى يرى عليه خشوع التوبة وحال المخلص فحينئذ يخلي سبيله ، فإن عاد بعد ذلك فعل به كذلك أبدا ما دام يرجع إلى الإسلام قال الكرخي : هذا قول أصحابنا جميعا أن المرتد يستتاب أبدا ، وما ذكر الكرخي مروي في النوادر قال : إذا تكرر ذلك منه يضرب ضربا مبرحا ثم يحبس إلى أن تظهر توبته ورجوعه انتهى . وذلك لإطلاق قوله تعالى { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } وعن ابن عمر وعلي رضي الله عنهم : لا تقبل توبة من كرر ردته كالزنديق ، وهو قول مالك وأحمد والليث لقوله تعالى { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا } الآية .

. قلنا : رتب عدم المغفرة على شرط قوله تعالى { ثم ازدادوا كفرا } وفي الدراية قال : في الزنديق لنا [ ص: 71 ] روايتان : في رواية لا تقبل توبته كقول مالك وأحمد ، وفي رواية تقبل كقول الشافعي ، وهذا في حق أحكام الدنيا ، أما فيما بينه وبين الله جل ذكره إذا صدق قبله سبحانه وتعالى بلا خلاف ، وما عن أبي يوسف : لو فعل ذلك مرارا يقتل غيلة ، فسره بأن ينتظر فإذا أظهر كلمة الكفر قتل قبل أن يستتاب ; لأنه ظهر منه الاستخفاف ، وقتل الكافر الذي بلغته الدعوة قبل الاستتابة جائز .

التالي السابق


الخدمات العلمية