صفحة جزء
[ ص: 121 ] قال ( فإن كانت أقل من عشرة دراهم عرفها أياما ، وإن كانت عشرة فصاعدا عرفها حولا ) قال العبد الضعيف : وهذه رواية عن أبي حنيفة .

وقوله أياما معناه على حسب ما يرى . وقدره محمد في الأصل بالحول من غير تفصيل بين القليل والكثير ، وهو قول مالك والشافعي لقوله عليه الصلاة والسلام { من التقط شيئا فليعرفه سنة من غير فصل } . وجه الأول أن التقدير بالحول ورد في لقطة كانت مائة دينار تساوي ألف درهم ، والعشرة وما فوقها في معنى الألف في تعلق القطع به في السرقة وتعلق استحلال الفرج به وليست في معناها في حق تعلق الزكاة ، فأوجبنا التعريف بالحول احتياطا ، وما دون العشرة ليس في معنى الألف بوجه ما ففوضنا إلى رأي المبتلى به [ ص: 122 ]

وقيل الصحيح أن شيئا من هذه المقادير ليس بلازم ، ويفوض إلى رأي الملتقط يعرفها إلى أن يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك ثم يتصدق بها ، وإن كانت اللقطة شيئا لا يبقى عرفه حتى إذا خاف أن يفسد تصدق به ، وينبغي أن يعرفها في الموضع الذي أصابها . وفي الجامع : فإن ذلك أقرب إلى الوصول إلى صاحبها ، وإن كانت اللقطة شيئا يعلم أن صاحبها لا يطلبها كالنواة وقشور الرمان يكون إلقاؤه إباحة حتى جاز الانتفاع به من غير تعريف ولكنه مبقى على ملك مالكه لأن التمليك من المجهول لا يصح .

[ ص: 123 ] قال ( فإن جاء صاحبها وإلا تصدق بها ) إيصالا للحق إلى المستحق وهو واجب بقدر الإمكان ، وذلك بإيصال عينها عند الظفر بصاحبها وإيصال العوض وهو الثواب على اعتبار إجازة التصدق بها ، وإن شاء أمسكها رجاء الظفر بصاحبها قال ( فإن ) ( جاء صاحبها ) يعني بعدما تصدق بها ( فهو بالخيار إن شاء أمضى الصدقة ) وله ثوابها لأن التصدق وإن حصل بإذن الشرع لم يحصل بإذنه فيتوقف على إجازته ، والملك يثبت للفقير قبل الإجازة فلا يتوقف على قيام المحل ، بخلاف بيع الفضولي لثبوته بعد الإجازة فيه [ ص: 124 ] ( وإن شاء ضمن الملتقط لأنه سلم ماله إلى غيره بغير إذنه ) إلا أنه بإباحة من جهة الشرع ، وهذا لا ينافي الضمان حقا للعبد كما في تناول مال الغير حالة المخمصة ، وإن شاء ضمن المسكين إذا هلك في يده لأنه قبض ماله بغير إذنه ، وإن كان قائما أخذه لأنه وجد عين ماله .


[ ص: 121 ] قوله فإن كانت ) اللقطة ( أقل من عشرة عرفها أياما ) وفسرها المصنف بحسب ما يرى من الأيام من غير تفصيل ، وذلك أنه روي عن أبي حنيفة : إن كانت مائتين فصاعدا عرفها حولا ، وإن كانت أقل من مائتين إلى عشرة عرفها شهرا ، وإن كانت أقل من عشرة يعرفها على حسب ما يرى . وفي رواية أخرى قال : فيما دون العشرة إن كانت ثلاثة فصاعدا : يعني إلى العشرة يعرفها عشرة أيام ، وإن كانت درهما فصاعدا : يعني إلى ثلاثة يعرفها ثلاثة أيام ، وإن كانت دانقا فصاعدا يعرفها يوما ، وإن كانت دون الدانق ينظر يمنة ويسرة ثم يضعه في كف فقير .

قال شمس الأئمة : شيء من هذا ليس بتقدير لازم ، بل يعرف القليل بقدر ما يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك ، وهذا أخذ بالرواية التي ذكرناها قبل هذا وهو جيد ، والظاهر أنه إنما قدر بذلك التقديرات في القليل لغلبة الظن أن المالك في تلك التقادير لا يطلبها بعد تلك المدد فكان المعول عليه غلبة ظن تركها ، وظاهر الرواية وهو ما ذكر محمد في الأصل تقديره بالحول من غير فصل بين قليل وكثير وهو قول مالك والشافعي وأحمد لقوله صلى الله عليه وسلم ما سيذكر ، وكذا روي عن عمر وعلي وابن عباس . وجهه ما ذكره المصنف من قوله عليه الصلاة والسلام { من التقط شيئا فليعرفه سنة } من غير فصل .

وفيه ألفاظ منها ما رواه البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة فقال : لا تحل اللقطة ، فمن التقط شيئا فليعرفه سنة } ومعنى لا تحل اللقطة : أي لا يحل للملتقط تملكها ، وهذا لا يتعرض للالتقاط نفسه .

وفي الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني { سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال : عرفها سنة ، ثم اعرف عفاصها ووكاءها ثم استنفقها فإن جاء صاحبها فأدها إليه } ( وجه الأول أن التقدير بالحول ورد في لقطة كانت مائة دينار تساوي ألف درهم ، والعشرة فما فوقها في معنى الألف شرعا في تعلق القطع بسرقته وتعلق استحلال الفرج به وليست في معناها في حق تعلق الزكاة فأوجبنا التعريف بالحول ) إلحاقا لها بما فيه الزكاة من المائتين فما فوقها احتياطا ( وما دون العشرة ليس في معنى الألف شرعا بوجه ما ففوضنا ) التعريف فيها ( إلى رأي المبتلى به ) والمراد بقوله كانت مائة دينار [ ص: 122 ] ما في الصحيحين واللفظ للبخاري { عن أبي بن كعب قال أخذت صرة مائة دينار فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال عرفها حولا ، فعرفتها فلم أجد ، ثم أتيت بها فقال : عرفها حولا فعرفتها فلم أجد ، ثم أتيته ثالثا فقال : احفظ وعاءها وعددها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها } وهذا يقتضي قصر حديث العام على حديث المائة دينار ، وليس كذلك بل قد ورد الأمر بالتعريف سنة في غير حديث مطلقا عن صورة المائة دينار كما قدمنا وغيره مما لم نذكره ( قوله وقيل الصحيح أن شيئا من هذه التقادير ليس بلازم ) ولا التقدير بالعام ( ويفوض إلى رأي المبتلى به يعرفه إلى أن يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك ثم يتصدق بها ) وهذا ذكره شمس الأئمة واختاره .

واستدل عليه بحديث الثلاث سنين في المائة دينار ، فإنه يعرف به أن ليس السنة بتقدير لازم بل ما يقع عند الملتقط أن صاحبه يتركه أو لا ، وهذا يختلف باختلاف خطر المال ; ألا ترى أن المال لما كان ذا خطر كبير أمره صلى الله عليه وسلم أن يعرفه ثلاث سنين ( قوله وإن كانت اللقطة شيئا لا يبقى عرفه حتى يخاف فساده فيتصدق به ) قال المصنف ( وينبغي أن يعرفها في الموضع الذي أصابها فيه وفي الجامع ) يعني الأسواق وأبواب المساجد فينادي من ضاع له شيء فليطلبه عندي .

واعلم أن ظاهر الأمر بتعريفها سنة يقتضي تكرار التعريف عرفا وعادة وإن كان ظرفية السنة للتعريف يصدق بوقوعه مرة واحدة ، ولكن يجب حمله على المعتاد من أنه يفعله وقتا بعد وقت ، ويكرر ذلك كلما وجد مظنة ، وما قدمنا من قول الولوالجي مما يفيد الاكتفاء بالمرة الواحدة هو في دفع الضمان عنه ، أما الواجب فأن يذكرها مرة بعد أخرى ( قوله وإن كانت اللقطة شيئا يعلم أن صاحبها لا يطلبه كالنواة وقشور الرمان يكون إلقاؤه إباحة فيجوز الانتفاع بها ) للواجد ( بلا تعريف ) .

وعنه صلى الله عليه وسلم { أنه رأى تمرة في الطريق فقال : لولا أخشى أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها } ولا يعلم فيه خلاف بين العلماء ، ولكن تبقى على ملك مالكها ، حتى إذا وجدها في يده له أخذها لأن الإباحة لا تخرجه عن ملك مالكه ، وإنما إلقاؤها إباحة لا تمليك ( لأن التمليك من المجهول لا يصح ) وذكر شيخ الإسلام أنها لو كانت متفرقة فجمعها [ ص: 123 ] ليس للمالك أخذها لأنها تصير ملكا له بالجمع ، وعلى هذا التقاط السنابل ، وبه كان يفتي الصدر الشهيد ، وفي غير موضع تقييد هذا الجواب : أعني جواز الانتفاع بهما بما إذا كانت متفرقة ، فإن كانت مجتمعة في مكان فلا يجوز الانتفاع بها لأن صاحبها لما جمعها فالظاهر أنه ما ألقاها وأعرض عنها بل سقطت منه أو وضعها ليرفعها .

وعن أبي يوسف : لو جز صوف شاة ميتة كان له أن ينتفع به ، ولو وجده صاحب الشاة في يده كان له أن يأخذه منه ، ولو دبغ جلدها كان لصاحبها أن يأخذه بعد أن يعطيه ما زاد الدباغ .

وفي الخلاصة : والتفاح والكمثرى والحطب في الماء لا بأس بأخذه ( قوله فإن جاء صاحبها أخذها وإلا تصدق بها ) أو أكلها إن كان فقيرا ، أو استقرضها بإذن الإمام ويتملكها إن شاء وإن شاء أمسكها أبدا حتى يجيء صاحبها ، وإذا خشي الموت يوصي بها كي لا تدخل في المواريث ، ثم الورثة أيضا يعرفونها ، ومقتضى النظر أنهم لو لم يعرفوها حتى هلكت وجاء صاحبها أن يضمنوا لأنهم وضعوا أيديهم على لقطة ولم يشهدوا : أي لم يعرفوا ، ويغلب على الظن بذلك أن قصدهم تعميتها عن صاحبها ، ويجري فيه خلاف أبي يوسف وسيأتي الخلاف في ذلك في آخر الباب ، فإن جاء صاحبها ( بعد التصدق فهو ) بأحد خيارات ثلاث ( إن شاء أمضى الصدقة وله ثوابها لأن التصدق وإن حصل بإذن الشرع لم يحصل بإذنه ) أي بإذن المالك وحصول الثواب للإنسان يكون بفعل مختار له ولم يوجد ذلك قبل لحوق الإذن والرضا فبالإجازة والرضا يصير كأنه فعل بنفسه لرضاه بذلك .

فإن قيل : كيف تلحقه الإجازة وهي تتوقف على قيام المحل وقد يكون مجيء المالك بعد استهلاك الفقير لها ؟ أجاب بأن ذلك فيما يتوقف فيه الملك على الإجازة كما في بيع الفضولي ، أما هنا فالملك يثبت قبل ذلك شرعا لأن الأمر بالتصدق عند عدم ظهور المالك بعد التعريف لا يفيد مقصوده دون ملك المتصدق عليه ، وإذا ثبت الملك قبلها ومعلوم أنه مطلق للتصرف وحال الفقير يقتضي سرعة استهلاكها ثبت عدم توقف اعتبارها على قيام المحل بعد ثبوت اعتبارها بعد الاستهلاك شرعا إجماعا [ ص: 124 ] حتى ينتقل إليه الثواب ( وإن شاء ضمن الملتقط لأنه سلم ماله إلى غيره بغير إذنه ) فإن قلت : لكنه بإذن الشرع وإباحة منه .

قلنا : الثابت من الشارع إذنه في التصدق لا إيجابه ( هذا ) القدر ( لا ينافي ) وجوب الضمان ( حقا للعبد كما في ) إذنه ( في تناول مال الغير عند المخمصة ) والمرور في الطريق مع ثبوت الضمان ، فإذا جاز أن يثبت إذنه مقيدا به كما ذكرنا وجب أن يثبت كذلك لأن الأصل ثبوت ضمان مال العبد على المتصرف فيه بغير إذنه ( وإن شاء ضمن المسكين ) إذا كان المدفوع إليه ( هلك في يده لأنه قبض ماله بغير إذنه ) فإن قلت : إذا قبضها الفقير ثبت ملكه فيها بإذن الشرع فكيف يسترجعها .

أجيب بأنه لا مانع من ثبوت الملك بإذن الشرع مع ثبوت حق الاسترداد كما في الهبة . والمرتد : الراجع من دار الحرب مسلما بعد أخذ الورثة ماله بعد الحكم باللحاق ، وإذا كان كذلك جعل كذلك عند عدم إذنه ( وإن كان قائما أخذه لأنه وجد عين ماله ) وما نقل عن القاضي أبي جعفر من أنه إنما يرجع على الملتقط إذا تصدق بغير أمر القاضي ، أما إذا كان بأمره فلا يرجع ردوه بأنه خلاف المذهب ، فإنه لو تصدق القاضي بنفسه كان للمالك أن يضمنه إذا جاء فضلا عن الملتقط المتصدق بأمره ، وهذا لأن القاضي ناظر للغيب في أموالهم حفظا لها لا إتلافا فلا ينفذ من إتلافه إلا ما لزمه شرعا القيام والتصدق ليس كذلك

التالي السابق


الخدمات العلمية