صفحة جزء
( فصل ) [ ص: 233 ] ( وإذا بنى مسجدا لم يزل ملكه عنه حتى يفرزه عن ملكه بطريقه ويأذن للناس بالصلاة فيه ، فإذا صلى فيه واحد زال عند أبي حنيفة عن ملكه ) أما الإفراز فلأنه لا يخلص لله تعالى إلا به ، وأما الصلاة فيه فلأنه لا بد من التسليم عند أبي حنيفة ومحمد ، ويشترط تسليم نوعه ، وذلك في المسجد بالصلاة فيه ، أو لأنه لما تعذر القبض فقام تحقق المقصود مقامه ثم يكتفى بصلاة الواحد فيه في رواية عن أبي حنيفة ، وكذا عن محمد ; لأن فعل الجنس متعذر فيشترط أدناه .

وعن محمد أنه يشترط الصلاة بالجماعة ; لأن المسجد بني لذلك في الغالب ( وقال أبو يوسف : يزول ملكه بقوله جعلته مسجدا ) لأن التسليم عنده ليس بشرط ; لأنه إسقاط لملك العبد فيصير خالصا لله تعالى [ ص: 234 ] بسقوط حق العبد وصار كالإعتاق ، وقد بيناه من قبل .


( فصل )

لما اختص المسجد بأحكام تخالف أحكام مطلق الوقف عند الثلاثة ، فعند أبي حنيفة لا يشترط في زوال الملك عن المسجد حكم الحاكم ولا الإيصاء به ، ولا يجوز مشاعا عند أبي يوسف ، ولا يشترط التسليم إلى المتولي عند محمد أفرده بفصل على حدته وأخره . هذا ويمكن أن يجعل من ذلك أيضا ما لو اشترى أرضا شراء فاسدا وقبضها ، ثم وقفها على الفقراء جاز وعليه قيمتها للفقراء ، ولو اتخذها مسجدا قال الفقيه أبو جعفر : ذكر محمد في كتاب الشفعة أنه لو اشترى أرضا شراء فاسدا وبناها بناء المسجد جاز عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعليه قيمتها للبائع ، [ ص: 233 ] وقول أبي يوسف ومحمد ينقض البناء وترد الأرض إلى البائع بفساد البيع .

قال : فاشتراط البناء له دليل على أن لا يكون مسجدا قبل البناء عند الكل . وذكر هلال أنه يصير مسجدا في قول أصحابنا فصار فيه روايتان . قال الفقيه أبو جعفر : في الوقف أيضا روايتان . والفرق على إحداهما عند هذا القائل أن في الوقف حق العباد كالبيع والهبة ، وأما المسجد فخالص حق الله تعالى وما هو خبيث لا يصلح لله تعالى ولهذا قالوا : لو اشترى دارا لها شفيع فجعلها مسجدا كان للشفيع أن يأخذها بالشفعة ، وكذا إذا كان للبائع حق الاسترداد كان له أن يبطل المسجد ( قوله وإذا بنى مسجدا لم يزل ملكه عنه حتى يفرزه بطريقه عن ملكه ويأذن للناس في الصلاة فيه ، فإذا صلى فيه واحد زال ملكه عند أبي حنيفة ) ومحمد في رواية عنهما ، وفي رواية أخرى عنهما : لا يزول إلا بصلاة جماعة ، وعند أبي يوسف يزول ملكه بمجرد قوله جعلته مسجدا . أما قولهما فلأن الملك لم يزل بمجرد القول فمشى محمد على أصله في اشتراط التسليم ، لكن لا يتعين المتولي ; لأن تعينه لتحقق التسليم إلى من أخرج إليه وهو الله سبحانه وتعالى ولا يتحقق إلا في ضمن التسليم إلى العبد على ما مر لا كل عبد ، بل الذي تعود منفعته إليه ، غير أن المتولي يقام مقامهم في القبض ، ومقام الواقف في إقبال الغلة لهم لكل وقف في العادة ، فتبين ولم تجر العادة في المسجد بذلك إذ ليس له غلة يستحقها الناس فأقيم حصول المقصود مقام التسليم وهو بالصلاة فيه ، وعلى هذا يخرج عن الملك بصلاة المنفرد ; لأن قبض الجنس متعذر فاكتفى بالواحد . وعلى هذه الرواية اختلفوا لو صلى الواقف بنفسه وحده ، والصحيح أنه لا يكفي ; لأن الصلاة إنما تشترط لأجل القبض للعامة وقبضه من نفسه لا يكفي ، فكذا صلاته . ووجه رواية اشتراط الجماعة أنها المقصود بالمسجد لا مطلق الصلاة ، فإنها تتحقق في غير المسجد فكان تحقق المقصود منه بصلاة الجماعة ، ولهذا يشترط كونها بأذان وإقامة عندهما .

ولو جعل له واحدا مؤذنا وإماما فأذن وأقام وصلى وحده صار مسجدا بالاتفاق ; لأن أداء الصلاة على هذا الوجه كالجماعة ، ولهذا قالوا يكره بعد صلاة المؤذن هذه أن تعاد الجماعة لمن يأتي بعده على هذا الوجه عند البعض . وقولنا لا يتعين المتولي يفيد أنه لو سلمه إلى متول جعله له صح ، وإن لم يصل فيه أحد . وفيه اختلاف المشايخ . والوجه الصحة ; لأن بالتسليم إلى المتولي أيضا يحصل تمام التسليم إليه تعالى لرفع يده عنه .

وجه قول أبي حنيفة في الفرق بين المسجد وغيره في الخروج عن الملك بلا حكم مما سيأتي بأن لفظ الوقف والصدقة في قول الواقف جعلت أرضي صدقة موقوفة [ ص: 234 ] ونحوها لا يوجب الخروج عن الملك ; لأن لفظ الوقف لا ينبئ عنه ، والصدقة ليس معناها إلا التصدق بالغلة وهي معدومة فلا يصح ، بل الوقف ينبئ عن الإبقاء في الملك لتحصل الغلة على ملكه فيتصدق بها فيحتاج إلى حكم الحاكم لإخراجه عن ملكه إلى غير مالك في محل الاجتهاد ، بخلاف قوله جعلته مسجدا فإنه ليس منبئا عن إبقاء الملك ليحتاج إلى القضاء بزواله ، فإذا أذن في الصلاة فيه فصلى كما ذكرنا ، قضى العرف في ذلك بخروجه عنه ، ومقتضى هذا أمران : أحدهما أنه لا يحتاج في جعله مسجدا إلى قوله وقفته ونحوه ، وهو كذلك وبه قال مالك وأحمد ، وقال الشافعي : لا بد من قوله وقفته أو حبسته ونحو ذلك ; لأنه وقف على قربة فكان كالوقف على الفقراء ، ونحن نقول : إن العرف جار بأن الإذن في الصلاة على وجه العموم والتخلية يفيد الوقف على هذه الجهة فكان كالتعبير به ، فكان كمن قدم طعاما إلى ضيفه أو نثر نثارا كان إذنا في أكله والتقاطه ، بخلاف الوقف على الفقراء لم تجر عادة فيه بمجرد التخلية والإذن بالاستغلال ، ولو جرت به عادة في العرف اكتفينا بذلك كمسألتنا . والثاني أنه لو قال وقفته مسجدا ، ولم يأذن في الصلاة فيه ، ولم يصل فيه أحد لا يصير مسجدا بلا حكم وهو بعيد . وأبو يوسف رحمه الله مر على أصله من زوال الملك بمجرد القول أذن في الصلاة أو لم يأذن ، ويصير مسجدا بلا حكم ; لأنه إسقاط كالإعتاق ، وبه قالت الأئمة الثلاثة . وينبغي أن يكون قول أبي يوسف إن كلا من مجرد القول والإذن كما قالا موجب لزوال الملك وصيرورته مسجدا لما ذكرنا من العرف

التالي السابق


الخدمات العلمية