صفحة جزء
[ ص: 69 ] ( باب السلم ) [ ص: 70 ]

السلم عقد مشروع بالكتاب وهو آية المداينة ، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : أشهد أن الله تعالى أحل السلف المضمون وأنزل فيها أطول آية في كتابه ، وتلا قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } الآية . [ ص: 71 ] وبالسنة وهو ما روي { أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم } والقياس وإن كان يأباه ولكنا تركناه بما رويناه . ووجه القياس أنه بيع المعدوم إذ المبيع هو المسلم فيه .


( باب السلم )

تقدم أن البيع ينقسم إلى بيع مطلق ومقايضة وصرف وسلم ، لأنه إما بيع عين بثمن وهو المطلق ، أو قلبه وهو السلم ، أو ثمن بثمن فالصرف ، أو عين بعين فالمقايضة .

ولم يشترط في المطلق والمقايضة قبض فقدما وشرط في الآخرين ، ففي الصرف قبضهما وفي السلم قبض أحدهما ، فقدم انتقالا بتدريج . وخص باسم السلم [ ص: 70 ] لتحقق إيجاب التسليم شرعا فيما صدق عليه : أعني تسليم رأس المال ، وكان على هذا تسمية الصرف بالسلم أليق ، لكن لما كان وجود السلم في زمنه صلى الله عليه وسلم هو الظاهر العام في الناس سبق الاسم له ، ويعرف مما ذكر أن معناه الشرعي بيع آجل بعاجل .

وما قيل أخذ عاجل بآجل غير صحيح لصدقه على البيع بثمن مؤجل ، وعرف أيضا أنه يصدق على عقده بلفظ البيع بأن قال المسلم إليه بعتك كذا حنطة بكذا إلى كذا ، ويذكر باقي الشروط أو يقول المسلم اشتريت منك إلى آخره ، وفيه خلاف زفر وعيسى بن أبان ، وصحة المذهب عنه عسر الوجه لأن العبرة للمعنى ، ومعنى أسلمت إليك إلى كذا وبعتك إلى كذا في البيع مع باقي الشروط واحد وإن كان على خلاف القياس ، فذاك باعتبار أمر آخر لا بأمر يرجع إلى مجرد اللفظ . وعرف أن ركنه ركن البيع .

وسبب شرعيته شدة الحاجة إليه ، وسيذكر المصنف شرائطه .

وأما حكمه فثبوت الملك للمسلم إليه في الثمن ، ولرب السلم في المسلم فيه الدين الكائن في الذمة ، أما في العين فلا يثبت إلا بقبضه على انعقاد مبادلة أخرى على ما سيعرف والمؤجل المطالبة بما في الذمة ، ومعناه لغة : السلف ، فاعتبر في الشرع كأن الثمن يسلفه المشتري للبائع ليقضيه إياه ، وجعل إعطاء العوض للمسلم إليه فيه قضاء كأنه هو ، إذ لا يصح الاستبدال فيه قبل القبض وجعل الهمزة في أسلمت إليك للسلب بمعنى أزلت سلامة رأس المال حيث سلمته إلى مفلس ونحو ذلك بعيد ، ولا وجه له إلا باعتبار المدفوع هالكا ، وصحة هذا الاعتبار تتوقف على غلبة توائه عليه ، وليس الواقع أن السلم كذلك بل الغالب الاستيفاء ( قوله وهو ) يعني السلم ( عقد مشروع بالكتاب وهو آية المداينة ) أخرج الحاكم في المستدرك بسنده .

وصححه على شرطهما عن قتادة عن أبي حسان الأعرج عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في الكتاب وأذن فيه ، قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم [ ص: 71 ] بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } الآية ، وعنه رواه الشافعي في مسنده والطبراني وابن أبي شيبة ، وعزاه بعض متأخري المصنفين إلى البخاري ، وهو غلط فإنه لم يخرج في صحيحه لأبي حسان الأعرج واسمه مسلم ، والمصنف قد ذكر لفظ الحديث : أحل السلف المضمون ، فقال بعض المشايخ : المراد بالمضمون المؤجل بدليل أنه في بعض رواياته : السلف المؤجل ، وعلى هذا فهي صفة مقررة لا مؤسسة ، ويكون ما روى المخرجون الذين ذكرناهم من قوله المضمون إلى أجل جمعا بين مقررين .

وقوله مسمى أي معين ( و ) كذا ( بالسنة ) إلا أن لفظ الحديث كما ذكره المصنف فيه غرابة وهو أنه صلى الله عليه وسلم { نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم } وإن كان في شرح مسلم للقرطبي ما يدل على أنه عثر عليه بهذا اللفظ . قيل والذي يظهر أنه حديث مركب من حديث النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان ، رواه أصحاب السنن الأربعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عنه صلى الله عليه وسلم { لا يحل سلف وبيع } ، إلى أن قال : { ولا تبع ما ليس عندك } قال الترمذي : حسن صحيح ، وتقدم .

والرخصة في السلم رواه الستة عن أبي المنهال عن ابن عباس قال { قدم النبي صلى الله عليه وسلم والناس يسلفون في التمر السنة والسنتين والثلاث . فقال : من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم } وفي البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى قال : { إنا كنا لنسلف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في الحنطة والشعير والتمر والزبيب } .

ولا يخفى أن جوازه على خلاف القياس ، إذ هو بيع المعدوم وجب المصير إليه بالنص والإجماع للحاجة من كل من البائع والمشتري ، فإن المشتري يحتاج إلى الاسترباح لنفقة عياله وهو بالسلم أسهل ، إذ لا بد من كون المبيع نازلا عن القيمة فيربحه المشتري ، والبائع قد يكون له حاجة في الحال إلى السلم وقدرة في المآل على المبيع بسهولة فتندفع به حاجته الحالية إلى قدرته المالية فلهذه المصالح شرع . ومنع بعض من نقد الهداية .

قولهم السلم على خلاف القياس لأنه بيع المعدوم ، قال : بل هو على وفقه فإنه كالابتياع بثمن مؤجل . وأي فرق بين كون أحد العوضين مؤجلا في الذمة وبين الآخر ، بل هو على وفق القياس ومصلحة الناس .

قال : وهذا المعنى هو الذي فهمه ترجمان القرآن ابن عباس ، وتلا الآية [ ص: 72 ] ثم قال بعد كلام اندفع فيه : فالحاصل أن قياس السلم على الابتياع بثمن مؤجل أصح من قياسه على بيع المعدوم الذي لا يقدر على تسليمه عادة مع الحلول كسائر الديون المؤجلة ، وأطال كلاما وحاصله مبني على اعتقاد أن القوم قاسوا السلم على بيع المعدوم فيكون على خلاف القياس ، وأن قياسه على الثمن المؤجل أولى به ، وليس كلامهم هذا بل إنه هو نفسه بيع المعدوم فهو على خلاف القياس الأصلي فيه ، وكونه معدوما لا يقدر على تحصيله عادة ليس هو معتبرا في مفهوم السلم عندهم بل هو زيادة من عنده .

وقوله أي فرق إلى آخره يفيد أنه على وفق القياس ، وكلامه يفيد الاعتراف بكون بيع المعدوم على خلاف القياس .

ثم الفرق ظاهر وهو أن المبيع هو المقصود من البيع والمحل لوروده فانعدامه يوجب انعدام البيع ، بخلاف الثمن فإنه وصف يثبت في الذمة مع صحة البيع ، فقد تحقق البيع شرعا مع عدم وجود الثمن لأن الموجود في الذمة وصف يطابقه الثمن لا عين الثمن ، وليس في كلام ابن عباس ما يفهم أنه رآه على خلاف القياس ، وكونه فيه مصلحة الناس لا ينفي أنه على خلاف القياس بل لأجل هذه المصلحة شرع وإن كان على خلاف القياس .

التالي السابق


الخدمات العلمية