صفحة جزء
[ ص: 84 ] قال ( ولا خير في السلم في اللحم عند أبي حنيفة رحمه الله . وقالا : إذا وصف من اللحم موضعا معلوما بصفة معلومة جاز ) لأنه موزون مضبوط الوصف ولهذا يضمن بالمثل . ويجوز استقراضه وزنا ويجري فيه ربا الفضل ، بخلاف لحم الطيور لأنه لا يمكن وصف موضع منه . وله أنه مجهول للتفاوت في قلة العظم وكثرته أو في سمنه وهزاله على اختلاف فصول السنة ، وهذه الجهالة مفضية إلى المنازعة . وفي مخلوع العظم لا يجوز على [ ص: 85 ] الوجه الثاني وهو الأصح ، والتضمين بالمثل ممنوع .

وكذا الاستقراض ، وبعد التسليم فالمثل أعدل من القيمة ، ولأن القبض يعاين فيعرف مثل المقبوض به في وقته ، أما الوصف فلا يكتفى به .


( قوله ولا خير في السلم في اللحم ) وهذه العبارة تأكيد في نفي الجواز كقوله لا خير في استقراض الخبز ، وقول من قال إن المجتهد يقوله فيما يستخرج من الحكم بالرأي تحرزا عن القطع في حكم الله تعالى بالرأي بعيد . فكل الأحكام القياسية المظنونة معبر عنها في الفقه بلا يجوز كذا أو يجوز كذا . وكلها من هذا القبيل لأنه قد استقر عند أهل العلم أنها مظنونات لا مقطوعات ، وأيضا المجتهد قاطع بأن حكم الله في حقه ذلك ( وقالا : إذا وصف من اللحم موضعا معلوما بصفة ) ككونه ذكرا وخصيا وسمينا بعد أن بين جنسه من نحو الضأن وسنه ثني ومن الفخذ الكتف أو الجنب مائة رطل .

وفي الحقائق والعيون الفتوى على قولهما ، وهذا على الأصح من ثبوت الخلاف بينهم . وقد قيل لا خلاف ، فمنع أبي حنيفة فيما إذا أطلقا السلم في اللحم وقولهما إذا بينا ما ذكرناه . ووجهه أنه موزون في عادة الناس مضبوط بما ذكرنا من الوصف .

وقوله ولهذا يضمن بالمثل استدلال على كونه موزونا وكذا كونه مضمونا بالمثل جائز الاستقراض ، وما ذكرنا من العادة المستمرة فيه في سائر الأقطار قاطع فيه ، وما فيه من العظم غير مانع لأنه إذا سمى موضعا ومعلوم أنه فيه عظم كان تراضيا على قطعه بما تضمنه من العظم ، ولأنه ثابت بأصل الخلقة كالنوى في التمر ولذا جاز السلم في الألية مع أنها لا تخلو من عظم والسلم فيها وفي الشحم بالإجماع ( بخلاف لحم الطيور لأنه لا يمكن وصف موضع منه ) لأن عضو الطير صغير وهذا ظاهر في منعه مطلقا . [ ص: 85 ] وحاصل الكلام فيه أن ما لا يصطاد من الطيور لا يجوز السلم فيه ولا في لحمه .

وما صيد قيل هو على الخلاف عندهما يجوز ، وعنده لا يجوز . وقيل يجوز عند الكل لأن ما فيه من العظم لا يعتبره الناس وهو الصحيح ، فيجب أن يكون محمل ما في الكتاب من المنع مطلقا في مخلوع العظم . فإن العلة حينئذ ثابتة . ثم يجب أنه إذا أسلم في مائة رطل من لحم الدجاج مثلا أن يعين الموضع بعد كونه بعظم .

فإن من الناس من لا يحب الصدر منها فيقول أوراكا أو غير الصدر أو ينص على صدرها وأوراكها ، فإن أطلق فقال من لحم الدجاج السمين يجب أن لا يجوز للمنازعة بسبب ما ذكرنا لاختلاف أغراض الناس .

ولأبي حنيفة رضي الله عنه وجهان : أحدهما أنه يقع سلما في المجهول لتفاوت اللحم بقلة العظم وكثرته ، بخلاف لحم السمك فإن مضمونه من العظم قليل معلوم إهداره بين الناس . ولذا هو فرق بين لحم السمك وغيره . وقولهما إذا سمى موضعا كان تراضيا على قطعه بما تضمنه من العظم .

قلت : للمشاهد في بيع اللحم حالا بعظمه جريان المعاكسة بين البائع والمشتري في العظم ، حتى أن المشتري يستكثره فيأمره بنزع بعضه والجزار يدسه عليه ، فكيف في المؤجل المستأخر التسليم ، وعلى هذا الوجه يجوز السلم في مخلوع العظم وهو رواية الحسن عنه . ثانيهما أنه يختلف بحسب الفصول سمنا وهزالا ، فلو سمى السمين قد يكون انتهاء الأجل في فصل الهزال . وحاصل هذا الوجه أنه سلم في المنقطع وعلى هذا لا يجوز في مخلوع العظم وهو رواية ابن شجاع عنه .

قال المصنف ( وهو الأصح ) لأن الحكم المعلل بعلتين مستقلتين يثبت مع إحداهما كما يثبت معهما . وقولهما يضمن بالمثل ممنوع بما ذكر في باب الاستحقاق من الجامع الكبير فيمن غصب لحما فشواه ثم استحقه رجل لا يسقط ضمان الغصب وللمغصوب منه أن يضمنه قيمة اللحم .

قيل ولا توجد رواية بأنه من ذوات القيم إلا هنا من الجامع الكبير ، لكن ذكر صاحب الفتاوى الصغرى أنه رأى وسط غصب المنتقى أن أبا يوسف روى عن أبي حنيفة : إذا استهلك لحما قال عليه قيمته ، وحل عبارة المصنف ( أن القبض ) أي قبض اللحم القرض ( يعاين فيعرف مثله به ) أي بالمقبوض . أما السلم فليس فيه مقبوض معين بل مجرد وصف فلا يكتفى به إلى آخر ما ذكرنا وكذا الاستقراض وزنا أيضا ممنوع بل ذاك مذهبهما ، وبعد التسليم أي تسليم أن ضمان اللحم بالمثل كما اختاره الإسبيجابي أنه يضمن بالمثل إلا أن ينقطع من أيدي الناس ، وهو الوجه لأن جريان ربا الفضل فيه قاطع بأنه مثلي فيفرق بين الضمان والسلم بأن المعادلة في الضمان منصوص عليها ، وتمام المعادلة بالمثل لأنه مثل صورة ومعنى . [ ص: 86 ] أما القيمة فمثل معنى فقط لأن الموجب الأصلي رد العين والمثل أقرب إلى العين ، بخلاف القيمة ، وكذا بتقدير تسليم استقراضه .

فالفرق بين السلم والقرض أن القبض في القرض معاين محسوس فأمكن اعتبار المقبوض ثانيا بالأول .

أما السلم فإنما يقع على الموصوف في الذمة وبالوصف عند العقد لا تعرف مطابقته للموجود عند القبض كمعرفة مطابقته بعد رؤية المقبوض الموجب للمثل ، وهذا معنى قوله أما الوصف فلا يكتفى به : أي لا يكتفي بالوصف في معرفة الموافقة بين الموصوف والمقبوض كما هو بين المقبوض أولا والمقبوض ثانيا .

ولما أهدر الشارع في باب الربا كون الجودة فارقا ثبت الربا بين لحمي نوع متفاضلا وإن اختلف موضعهما كلحم فخذ مع لحم ضلع

التالي السابق


الخدمات العلمية