صفحة جزء
[ ص: 135 ] قال ( ولا بد من قبض العوضين قبل الافتراق ) لما روينا ، ولقول عمر رضي الله عنه : وإن استنظرك أن يدخل بيته فلا تنظره ، ولأنه لا بد من قبض أحدهما ليخرج العقد عن الكالئ بالكالئ ثم لا بد من قبض الآخر تحقيقا للمساواة فلا يتحقق الربا ، ولأن أحدهما ليس بأولى من الآخر فوجب قبضهما سواء [ ص: 136 ] كانا يتعينان كالمصوغ أو لا يتعينان كالمضروب أو يتعين أحدهما ولا يتعين الآخر لإطلاق ما روينا ، ولأنه إن كان يتعين ففيه شبهة عدم التعيين لكونه ثمنا خلقة فيشترط قبضه اعتبارا للشبهة في الربا ، والمراد منه الافتراق بالأبدان ، حتى لو ذهبا عن المجلس يمشيان معا في جهة واحدة أو ناما في المجلس أو أغمي عليهما لا يبطل الصرف لقول ابن عمر رضي الله عنه [ ص: 137 ] وإن وثب من سطح فثب معه ، وكذا المعتبر ما ذكرناه في قبض رأس مال السلم ، بخلاف خيار المخيرة لأنه يبطل بالإعراض فيه .


( قوله ولا بد من قبض العوضين قبل الافتراق ) بإجماع الفقهاء . وفي فوائد القدوري : المراد بالقبض هنا القبض بالبراجم لا بالتخلية يريد باليد ، وذكرنا آنفا أن المختار أن هذا القبض شرط البقاء على الصحة لا شرط ابتداء الصحة لظاهر قوله : فإذا افترقا بطل العقد ، وإنما يبطل بعد وجوده وهو الأصح . وثمرة الخلاف فيما إذا ظهر الفساد فيما هو صرف يفسد فيما ليس صرفا عند أبي حنيفة رحمه الله ، ولا يفسد على القول الأصح ، وقوله ( لما روينا ) يعني قوله [ ص: 136 ] يدا بيد " وكذا ما روينا من حديث البخاري قوله صلى الله عليه وسلم { ولا تبيعوا منها غائبا بناجز } وقول عمر : " وإن استنظرك إلى آخره ، رواه مالك في الموطإ عنه قال لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ، ولا تبيعوا الورق بالذهب أحدهما غائب والآخر ناجز ، وإن استنظرك أن يلج بيته فلا تنظره إلا يدا بيد هات وهات ، إني أخشى عليكم الربا " وفي رواية قال " الرما " بالميم وهو الربا . ورواه عبد الرزاق وقال : أن يدخل بيته . ولما ثبت نص الشرع بإلزام التقابض علله الفقهاء بما ذكره المصنف ، وحله أن للتقدم مزية على النسيئة فيتحقق الفضل في أحد العوضين وهو الربا ، ولما كان مظنة أن يقال : هذا غير لازم في قبض العوضين لجواز أن يجعلا معا نسيئة قال : لا بد شرعا من قبض أحد العوضين كي لا يلزم الكالئ بالكالئ : أي الدين بالدين فلو لم يقبض الآخر لزم الربا بما قلنا .

وأيضا يلزم الترجيح بلا مرجح لأنهما مستويان في معنى الثمنية ، فإذا وجب قبض أحدهما فكذا الآخر لعدم الأولوية . فإن قيل : تعليل الكتاب يخص الثمنين المحضين اللذين لا يتعينان والحكم وهو لزوم التقابض ثابت وإن كان أحدهما يتعين بالتعيين كالمصوغ .

فأجاب بأن ذلك لإطلاق ما روينا من قوله صلى الله عليه وسلم { الذهب بالذهب والفضة بالفضة } وعلل الإطلاق المذكور بأن المتعين أيضا كالمصوغ فيه شبهة عدم التعيين إذ فيه شبهة الثمنية إذ قد خلق ثمنا ، والشبهة في باب الربا كالحقيقة على ما مر غير مرة . ولما كان المعول عليه تناول [ ص: 137 ] النص بإطلاقه لم يدفعه أن الثابت شبهة الشبهة بل وجب بالنص إلحاق شبهة شبهة الربا بشبهة الربا في هذا الحكم .

وقوله في جهة واحدة لأنهما لو مشيا كل في جهة كان افتراقا مبطلا . وقول ابن عمر : وإن وثب من سطح فثب ، يفيد عدم بطلان العقد بمجرد اختلاف المكان ، بل إذا لم يوافقه الآخر فيه ، وهذا لأن بمجرد وثوب أحدهما اختلف مكانهما ولم يعتبر مانعا إلا إذا لم يثب معه .

وحديث ابن عمر هذا غريب جدا من كتب الحديث ، وذكره في المبسوط فقال : وعن أبي جبلة قال : سألت عبد الله بن عمر فقلت : إنا نقدم أرض الشام ومعنا الورق الثقال النافقة وعندهم الورق الخفاف الكاسدة ، فنبتاع ورقهم العشر بتسعة ونصف ، فقال : لا تفعل ، ولكن بع ورقك بذهب واشتر ورقهم بالذهب ، ولا تفارقه حتى تستوفي ، وإن وثب عن سطح فثب معه . وفيه دليل رجوعه عن جواز التفاضل كما هو مذهب ابن عباس .

وعن ابن عباس أيضا رجوعه ، وفيه دليل أن المفتي إذا أجاب لا بأس أن يبين للسائل طريق تحصيل مطلوبه كما فعل صلى الله عليه وسلم حيث قال لبلال { بع التمر ببيع آخر ثم اشتريه } إنما المحظور تعليم الحيل الكاذبة لإسقاط الوجوبات .

قال ( وكذا المعتبر في قبض رأس مال السلم ) يعني أن يقبضه قبل الافتراق دون اتحاد المجلس ( بخلاف خيار المخيرة ) فإنها لو قامت قبل الاختيار بطل ، وكذا إذا مشت مع زوجها في جهة واحدة فإن ذلك دليل إعراضها عما كانت فيه ; لأن المعتبر في الإبطال هناك دليل الإعراض ، والقيام ونحوه دليله فلزم فيه المجلس ، ولتعلق الصحة بعدم الافتراق لا يبطل لو ناما في المجلس قبل الافتراق أو أغمي عليهما أو طال قعودهما . وعن محمد رحمه الله جعل الصرف كخيار المخيرة يبطل بدليل الإعراض كالقيام من المجلس ، حتى لو ناما أو أحدهما فهو فرقة ، ولو ناما جالسين فلا .

وعنه : القعود الطويل فرقة دون القصير ، ولو كان لرجل على آخر ألف درهم وللآخر عليه مائة دينار فأرسل رسولا يقول له : بعتك الدراهم التي لي عليك بالدنانير التي لك علي فقال : قبلت كان باطلا ، وكذا لو نادى أحدهما صاحبه من وراء جدار أو من بعيد لأنهما متفرقان . وعن محمد لو قال الأب : اشهدوا أني اشتريت هذا الدينار من ابني الصغير بعشرة وقام قبل نقدها بطل . هذا ويجوز الرهن ببدل الصرف والحوالة به كما في رأس مال السلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية