صفحة جزء
[ ص: 241 ] قال ( وإذا تمت الحوالة برئ المحيل من الدين بالقبول ) وقال زفر : لا يبرأ اعتبارا بالكفالة ، [ ص: 242 ] إذ كل واحد منهما عقد توثق ، ولنا أن الحوالة للنقل لغة ، ومنه حوالة الغراس والدين متى انتقل عن الذمة لا يبقى فيها .

أما الكفالة فللضم والأحكام الشرعية على وفاق المعاني اللغوية والتوثق باختيار الأملأ والأحسن في القضاء ، [ ص: 243 ] وإنما يجبر على القبول إذا نقد المحيل لأنه يحتمل عود المطالبة إليه بالتوى فلم يكن متبرعا .


( قوله وإذا تمت الحوالة بالقبول برئ المحيل من الدين ) هذا قول طائفة من المشايخ وهو المصحح من المذهب ، وقول طائفة أخرى : لا يبرأ إلا من المطالبة فقط ( وقال زفر : لا يبرأ ) من المطالبة أيضا ، فالنظر في خلاف المشايخ أولا حتى يثبت المذهب ثم ينظر في خلاف زفر ، فالقائلون إن المذهب لا يبرأ عن الدين استدلوا بمسائل ذكرها محمد تقتضي ذلك . فمنها أن المحتال إذا أبرأ المحتال عليه يصح ولا يرتد برده كإبراء الكفيل ; ولو انتقل أصل الدين إلى ذمة المحتال عليه وجب أن يرتد برده كما لو أبرأ المحتال المحيل قبل الحوالة لما فيه من معنى التمليك . ومنها أن المحيل إذا نقد المحتال ماله بعد الحوالة يجبر على القبول ، فلو انتقل أصل الدين بالحوالة كان متبرعا [ ص: 242 ] بمال المحتال فلا يجبر على قبوله لغيره . ومنها أن المحتال إذا وكل المحيل بقبض مال الحوالة من المحتال عليه لا يصح ، ولو انتقل الدين صار المحيل أجنبيا عنه ، وتوكيل الأجنبي بقبض الدين صحيح .

ومنها أن المحتال إذا أبرأ المحتال عليه لا يرجع المحتال عليه بذلك على المحيل ، فلو كانت الحوالة بأمر المحيل ولو وهب من المحتال عليه يرجع به على المحيل كما في الكفيل إلا إن لم يكن للمحيل عليه دين وإلا التقيا قصاصا ، ولو كان الدين يتحول إلى ذمته كان الإبراء والهبة في حقه سواء فلا يرجع . والقائلون إن المذهب ينتقل الدين استدلوا بأن المحتال إذا وهب الدين من المحيل أو أبرأه من الدين بعد الحوالة لا يصح إبراؤه وهبته ، ولو بقي الدين في ذمته صح ، وجعل شيخ الإسلام هذا الخلاف بين أبي يوسف ومحمد ; فعند أبي يوسف ينتقل الدين والمطالبة ، وعند محمد تنتقل المطالبة لا الدين . قال : وفائدة هذا الخلاف تظهر في مسألتين : إحداهما أن الراهن إذا حال المرتهن بالدين فله أن يسترد الرهن عند أبي يوسف كما لو أبرأه عنه ، وعند محمد لا يسترده كما لو أجل الدين بعد الرهن .

والثانية إذا أبرأ الطالب المحيل بعد الحوالة لا يصح عند أبي يوسف لأنه برئ بالحوالة ، وعند محمد يصح وبرئ المحيل لأن أصل الدين باق في ذمته ، وإنما تحولت المطالبة ليس غير ، وقد أنكر هذا الخلاف بينهما بعض المحققين وقال : لم ينقل عن محمد نص بنقل المطالبة دون الدين ، بل ذكر أحكاما متشابهة واعتبر الحوالة في بعضها تأجيلا وجعل المحول بها المطالبة لا الدين ، واعتبرها في بعض الأحكام إبراء وجعل المحول بها المطالبة والدين ، وإنما فعل هكذا لأن اعتبار حقيقة اللفظ يوجب نقل المطالبة والدين ، إذ الحوالة منبئة عن النقل وقد أضيف إلى الدين ، واعتبار المعنى يوجب تحويل المطالبة لأن الحوالة تأجيل معنى ; ألا ترى أنه إذا مات المحتال عليه مفلسا يعود الدين إلى ذمة المحيل ، وهذا هو معنى التأجيل ، فاعتبر المعنى في بعض الأحكام واعتبر الحقيقة في بعضها ، نعم يحتاج إلى بيان كمية خصوص الاعتبار في كل مكان ، وسيجيب المصنف عن بعضها في خلافية زفر هذه .

إذا عرف المذهب حينئذ جئنا إلى خلاف زفر له الاعتبار بالكفالة بجامع أن كلا منهما عقد توثق ولم ينتقل فيها دين ولا مطالبة بل تحقق فيها اشتراك في المطالبة ، ولأن عدم الانتقال أدخل في معنى التوثق إذ يصير له مكنة أن يطالب كلا منهما فكذا هذا .

( ولنا أن الحوالة للنقل لغة ومنه حوالة الغراس ) فوجب نقل الدين ( والدين إذا انتقل عن الذمة لا يبقى فيها ، أما الكفالة فللضم ) لغة لأنها من الكفل وهو الضم فوجب فيها اعتبار ضم الذمة إلى الذمة ( لأن الأحكام ) يعني العقود ( الشرعية ) المسماة بأسماء تعتبر فيها معاني تلك الأسماء وهو فائدة اختصاصها بأسمائها .

( قوله عقد توثق ) والتوثق أن يطالب كلا [ ص: 243 ] منهما . قلنا بل التوثق لم ينحصر في ذلك بل يصدق باختيار الأملأ والأيسر في القضاء فيكتفى به في تحقيق معنى التوثق في مسمى لفظ الحوالة غير متوقف على خصوص ما ذكر من التوثق ، وهذا الدليل ينتهض على زفر فإنه قال ببقاء الدين والمطالبة على الأصيل . أما الطائفة من المشايخ القائلون بنقل المطالبة دون الدين فلا ، فإنه إذا قال : الحوالة تنبئ عن النقل فيعتبر فيها ذلك .

قالوا : سلمنا ، واعتبار نقل المطالبة كاف في تحقيق معنى النقل غير متوقف على نقل الدين كما قلت . لزفر إن تحقيق التوثق يحصل باختيار الإملا إلخ غير متوقف على كل كما يحصل به التوثق . وقوله يجبر إلخ جواب نقض من قبل زفر وهو مما سبق من أدلة القائلين من المشايخ بعدم نقل الدين وهو أن المحيل إذا نقد المحتال الدين المحال به قبل نقد المحال عليه أجبر المحتال على القبول ، فلو لم يكن الدين باقيا على المحيل لم يجبر لأنه حينئذ متبرع بشيء من ماله فلا يجبر على قبوله . أجاب بأنه لا يلزم على تقدير النقل أن يكون متبرعا محضا ، وإنما يكون ذلك لو لم يكن عود الدين المنتقل إليه بعينه ممكنا مخوفا قد يتوقع ، فأما إن كان فلا لأنه على ذلك التقدير دافع عن نفسه المطالبة على تقدير تحقق سببها ، فهذا الجواب يدفع هذا الوارد من حيث هو نقض لزفر ودليل لتلك الطائفة ، وقد نقض من قبل زفر بوجود الحوالة ولا نقل أصلا بما إذا وقعت بغير إذن المحيل .

وأجيب بأن معنى النقل يتحقق فيه بعد أداء المحتال عليه حتى لا يبقى إذ ذاك على المحيل شيء ، إلا أنه قد يقال لو صح هذا لصح أن يقال الكفالة بغير أمر المكفول عنه فيها نقل الدين أيضا بهذا الوجه لأنه إذا أدى الكفيل لا يبقى على المكفول عنه شيء . والحق أن أصل الجواب ساقط فإن انتفاء الدين عن المحيل بأداء المحال عليه ليس هو نقل الدين بل انتفاؤه من الوجود بالكلية ، وليس هذا نقله بل نقله تحوله من محال إلى محل ذمة المحال عليه .

وعندي أن الجواب هو أن الحوالة بغير إذن المحيل ليست حوالة من كل وجه ، لأن حقيقة الحوالة إن كان فعل المحيل الإحالة أو الحاصل من فعله فهو منتف لانتفاء الفعل منه ، والنقل إنما هو في حقيقتها ولهذا أجاز المالكية هذا المعنى وأخرجوه من الحوالة وسموه حمالة ، وحكمها شطر حكم الحوالة وهو اللزوم على المتحمل دون الشطر الآخر وهو انتقال الدين عن المديون فلم تكن حوالة وإلا استعقبت تمام حكمها وهذا ما وعدناه .

التالي السابق


الخدمات العلمية