صفحة جزء
[ ص: 257 ] فأما تقليد الجاهل فصحيح عندنا خلافا للشافعي رحمه الله ، وهو يقول : إن الأمر بالقضاء يستدعي القدرة عليه ولا قدرة دون العلم . ولنا أنه يمكنه أن يقضي بفتوى غيره ، ومقصود القضاء يحصل به وهو إيصال الحق إلى مستحقه .


( فأما تقليد الجاهل فصحيح عندنا ) ويحكم بفتوى غيره ( خلافا للشافعي ) ومالك وأحمد وقولهم رواية عن علمائنا نص محمد في الأصل ، أن المقلد لا يجوز أن يكون قاضيا ولكن المختار خلافه . قالوا : القضاء يستدعي القدرة عليه ولا قدرة بدون العلم . قلنا : يمكنه القضاء بفتوى غيره ( ومقصود القضاء وهو إيصال الحق إلى مستحقه ) ورفع الظلم ( ويحصل به ) فاشتراطه ضائع ، والمراد بالعلم ليس ما يقطع بصوابه بل ما يظنه المجتهد ، فإنه لا قطع في مسائل الفقه ، وإذا قضى بقبول مجتهد فيه فقد قضى بذلك العلم وهو المطلوب ، وكون معاذ قال : أجتهد برأيي لا يلزمه اشتراطه ، وإنما لم يذكر معاذ الإجماع لأنه لم يكن حجة في زمنه صلى الله عليه وسلم . وقد قدمنا أيضا عن الغزالي توجيه خلافه فيقلد في هذا الزمان . في بعض نسخ الهداية : الاستدلال على تقليد المقلد بتقليد النبي صلى الله عليه وسلم عليا اليمن ولم يكن مجتهدا فليس بشيء ، فإنه عليه الصلاة والسلام دعا له بأن يهدي الله قلبه ويثبت لسانه . فإن كان بهذا الدعاء رزق أهلية الاجتهاد فلا إشكال ، وإلا فقد حصل له المقصود من الاجتهاد وهو العلم والسداد ، وهذا غير ثابت في غيره ، وسنذكر سند حديث علي رضي الله عنه . واعلم أن ما ذكر في القاضي ذكر في المفتي فلا يفتي إلا المجتهد ، وقد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد ، وأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفت ، والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد كأبي حنيفة على جهة الحكاية ، فعرف أن ما يكون في زماننا من فتوى الموجودين ليس بفتوى ، بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي ، وطريق نقله كذلك عن المجتهد أحد أمرين إما أن يكون له فيه سند إليه أو يأخذه من كتاب معروف تداولته الأيدي ، نحو كتب محمد بن الحسن ونحوها من التصانيف المشهورة للمجتهدين لأنه بمنزلة الخبر المتواتر عنهم أو المشهور ، وشهد هكذا ذكر الرازي فعلى هذا لو وجدنا بعض نسخ النوادر في زماننا لا يحل عزو ما فيها إلى محمد ولا إلى أبي يوسف لأنها لم تشتهر في عصرنا في ديارنا ولم تتداول . نعم إذا وجد النقل عن النوادر مثلا في كتاب مشهور معروف كالهداية والمبسوط كان ذلك تعويلا على ذلك الكتاب ، [ ص: 257 ] فلو كان حافظا للأقاويل المختلفة للمجتهدين ولا يعرف الحجة ولا قدرة له على الاجتهاد للترجيح لا يقطع بقول منها يفتي به ، بل يحكيها للمستفتي فيختار المستفتي ما يقع في قلبه أنه الأصوب ذكره في بعض الجوامع . وعندي أنه لا يجب عليه حكاية كلها بل يكفيه أن يحكي قولا منها فإن المقلد له أن يقلد أي مجتهد شاء ، فإذا ذكر أحدها فقلده حصل المقصود ، نعم لا يقطع عليه فيقول جواب مسألتك كذا بل يقول قال أبو حنيفة حكم هذا كذا ، نعم لو حكى الكل فالأخذ بما يقع في قلبه أنه الأصوب أولى .

والعامي لا عبرة بما يقع في قلبه من صواب الحكم وخطئه ، وعلى هذا إذا استفتى فقيهين : أعني مجتهدين فاختلفا عليه الأولى أن يأخذ بما يميل إليه قلبه منهما . وعندي أنه لو أخذ بقول الذي لا يميل إليه قلبه جاز لأن ميله وعدمه سواء ، والواجب عليه تقليد مجتهد وقد فعل أصاب ذلك المجتهد أو أخطأ . وقالوا المنتقل من مذهب إلى مذهب آخر باجتهاد وبرهان آثم يستوجب التعزير فبلا اجتهاد وبرهان أولى ، ولا بد أن يراد بهذا الاجتهاد معنى التحري وتحكيم القلب لأن العامي ليس له اجتهاد . ثم حقيقة الانتقال إنما تتحقق في حكم مسألة خاصة قلد فيه وعمل به ، وإلا فقوله قلدت أبا حنيفة فيما أفتى من المسائل مثلا والتزمت العمل به على الإجمال وهو لا يعرف صورها ليس حقيقة التقليد بل هذا حقيقة تعليق التقليد أو وعد به ، لأنه التزم أن [ ص: 258 ] يعمل بقول أبي حنيفة ، فيما يقع له من المسائل التي تتعين في الوقائع ، فإن أرادوا هذا الالتزام فلا دليل على وجوب اتباع المجتهد المعين بإلزامه نفسه ذلك قولا أو نية شرعا ، بل الدليل اقتضى العمل بقول المجتهد فيما احتاج إليه لقوله تعالى { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } والسؤال إنما يتحقق عند طلب حكم الحادثة المعينة ، وحينئذ إذا ثبت عنده قول المجتهد وجب عليه عمله به ، والغالب أن مثل هذه إلزامات منهم لكف الناس عن تتبع الرخص وإلا أخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد قوله أخف عليه . وأنا لا أدري ما يمنع هذا من النقل أو العقل وكون الإنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد ما علمت من الشرع ذمه عليه ، وكان صلى الله عليه وسلم يحب ما خفف عن أمته ، والله سبحانه أعلم بالصواب . .

التالي السابق


الخدمات العلمية