صفحة جزء
قال ( ولا بأس بالدخول في القضاء لمن يثق بنفسه أن يؤدي فرضه ) لأن الصحابة رضي الله عنهم تقلدوه وكفى بهم قدوة ، ولأنه فرض كفاية لكونه أمرا بالمعروف .


( قوله ولا بأس بالدخول في القضاء لمن يثق بنفسه أن يؤدي فرضه ، لأن الصحابة رضوان الله عليهم تقلدوا ولأنه فرض كفاية لكونه أمرا بالمعروف ) أما إن الصحابة تقلدوا فحديث معاذ معروف . وكذا علي رضي الله عنهما لرواية أبي داود عن علي قال { بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضيا ، فقلت : يا رسول الله ترسلني وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء ؟ فقال : إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك ، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول ، فإنه حري أن يتبين لك القضاء ، قال : فما زلت قاضيا أو ما شككت في قضاء بعد } ورواه أحمد وإسحاق بن راهويه والطيالسي والحاكم وقال : صحيح الإسناد ، وأخرجه ابن ماجه وفيه { فضرب صدري وقال : اللهم أهد قلبه وثبت لسانه ، قال : فما شككت } الحديث ، وصححه أيضا الحاكم في المستدرك عن ابن عباس قال { بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه إلى اليمن فقال : علمهم الشرائع واقض بينهم } الحديث ، وصححه ثم قلد علي شريحا الإمام .

وأما إنه فرض كفاية فقد قدمناه ، غير أن مقتضاه أن يكون الدخول فيه مستحبا ; وعبارة لا بأس أكثر استعمالها في المباح وما تركه أولى . وحاصل ما هنا أنه إن لم يأمن على نفسه الحيف : أي الجور أو عدم إقامة العدل كره له الدخول كراهة تحريم لأن الغالب الوقوع في محظوره حينئذ وإن أمن أبيح رخصة ، والترك هو العزيمة لأنه وإن أمن فالغالب هو خطأ ظن من ظن من نفسه الاعتدال فيظهر منه خلافه فيؤخره عن الاستحباب . هذا إذا لم تنحصر الأهلية فيه ، وإن انحصرت صار فرض عين وعليه ضبط نفسه ، إلا إن كان السلطان ممن يمكن أن يفصل الخصومات ويتفرغ لذلك . وحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { من جعل على القضاء فقد ذبح بغير سكين } حسنه الترمذي ، وأخرجه ابن عدي في الكامل من حديث ابن عباس .

عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من استقضي فقد ذبح بغير سكين } وحكي أن بعض القضاة استخف بهذا الحديث ثم دعا من يسوي له لحيته فبينما هو يحلق له تحت لحيته في حلقومه إذا عطس القاضي فألقى الموسى رأسه ، وقد جاء في التحذير من القضاء آثار .

وقد اجتنبه أبو حنيفة وصبر على الضرب والسجن حتى مات في السجن وقال : البحر عميق فكيف أعبر بالسباحة ؟ فقال أبو يوسف : البحر عميق والسفينة وثيق والملاح عالم . فقال [ ص: 261 ] أبو حنيفة : كأن بك قاضيا . وقول أبي حنيفة كقول أبي قلابة : ما وجدت القاضي إلا كسابح في بحر فكم يسبح حتى يغرق . وكان دعي للقضاء فهرب حتى أتى الشام فوافق موت قاضيها ، فهرب حتى أتى اليمامة . واجتنبه كثير من السلف . وقيد محمد بن الحسن نيفا وثلاثين يوما أو نيفا وأربعين يوما ليتقلده . وقد أخرج مسلم { عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا أبا ذر إني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال اليتيم } وأخرج أبو داود عن أبي بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { القضاة ثلاثة : اثنان في النار ، وواحد في الجنة : رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة ، ورجل عرف الحق فلم يقض وجار في الحكم فهو في النار ، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار } وفي صحيح ابن حبان عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { يدعى بالقاضي العادل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في عمره } وأخرج الحاكم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { من ولي عشرة فحكم بينهم بما أحبوا أو كرهوا جيء به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه ، فإن حكم بما أنزل الله ولم يرتش في حكمه ولم يحف فك الله عنه غله ، وإن حكم بغير ما أنزل الله وارتشى في حكمه وحاف فيه شدت يساره إلى يمينه ثم رمي به في جهنم } وروى النسائي عن مكحول : لو خيرت بين ضرب عنقي وبين القضاء لاخترت ضرب عنقي .

وأخرج ابن سعد في الطبقات قال : استعمل أبو الدرداء على القضاء فأصبح الناس يهنونه بالقضاء ، فقال : أتهنونني بالقضاء وقد جعلت على رأس مهواة منزلتها أبعد من عدن وأبين . وأما ما في البخاري { سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل } فلا ينافي مجيئه أولا مغلولة يده إلى [ ص: 262 ] عنقه إلى أن يفكها عدله فيظله الله تعالى في ظله فلا يعارض .

التالي السابق


الخدمات العلمية