صفحة جزء
( ولا نائحة ولا مغنية ) لأنهما يرتكبان محرما فإنه عليه الصلاة والسلام { نهى عن الصوتين الأحمقين النائحة والمغنية } ( ولا مدمن الشرب على اللهو ) لأنه ارتكب محرم دينه [ ص: 409 ] ( ولا من يلعب بالطيور ) لأنه يورث غفلة ولأنه قد يقف على عورات النساء بصعوده على سطحه ليطير طيره وفي بعض النسخ : ولا من يلعب بالطنبور وهو المغني ( ولا من يغني للناس ) لأنه يجمع الناس على ارتكاب كبيرة . [ ص: 410 - 412 ] ( ولا من يأتي بابا من الكبائر التي يتعلق بها الحد ) للفسق .


( قوله ولا نائحة ولا مغنية ) هذا لفظ القدوري ، فأطلق ثم قال بعد ذلك : ولا من يغني للناس ، فورد أنه تكرار لعلم ذلك مما ذكر من قوله : مغنية . والوجه أن اسم مغنية ومغن إنما هو في العرف لمن كان الغناء حرفته التي يكتسب بها المال ; ألا ترى إذا قيل ما حرفته أو ما صناعته يقال مغن كما يقال خياط أو حداد ، فاللفظ المذكور هنا يراد به ذلك غير أنه خص المؤنث به ليوافق لفظ الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم { لعن الله النائحات ، لعن الله المغنيات } ومعلوم أن ذلك لوصف التغني لا لوصف الأنوثة ولا للتغني مع الأنوثة ، لأن الحكم المترتب على مشتق إنما يفيد أن وصف الاشتقاق هو العلة فقط لا مع زيادة أخرى .

نعم هو من المرأة أفحش لرفع صوتها وهو حرام ، ونصوا على أن التغني للهو أو لجمع المال حرام بلا خلاف ، ومثل هذا لفظ النائحة صار عرفا لمن جعلت النياحة مكسبة ، وحينئذ كأنه قال : لا تقبل شهادة من اتخذ التغني صناعة يأكل بها لا من لم يكن ذلك صناعته ، ولذا علله في الكتاب بأنه يجمع الناس على ارتكاب كبيرة . وفي النهاية أن الغناء في حقهن مطلقا حرام لرفع صوتهن وهو حرام فلذا أطلق في قوله مغنية ، وقيد في غناء الرجال بقوله للناس . ولا يخفى أن قوله من يغني للناس لا يخص الرجال لأن من تطلق على المؤنث خاصة فضلا عن الرجال والنساء معا ، وكون صلتها وقعت بتذكير الضمير في قوله يغني بالياء من تحت لا يوجب خصوصه بالرجال [ ص: 409 ] لما عرف أنه يجوز في ضميرها مراعاة المعنى ومراعاة اللفظ ومراعاة اللفظ أولى وإن كان المعنى على التأنيث ، فكيف إذا كان المعنى أعم من المؤنث والمذكر .

فإن قلت : تعليل المصنف رحمه الله يجمع الناس على كبيرة يقتضي أن التغني مطلقا حرام وإن كان مفاده بالذات أن الاستماع كبيرة لأنهم إنما يجتمعون على الاستماع بالذات لأن كون الاستماع محرما ليس إلا لحرمة المسموع ، وليس كذلك فإنه إذا تغنى بحيث لا يسمع غيره بل نفسه ليدفع عنه الوحشة لا يكره . وقيل لا يكره إذا فعله ليستفيد به نظم القوافي ويصير فصيح اللسان .

وقيل ولا يكره لاستماع الناس إذا كان في العرس والوليمة ، وإن كان فيه نوع لهو بالنص في العرس . فالجواب أن التغني لإسماع نفسه ولدفع الوحشة خلافا بين المشايخ . منهم من قال : لا يكره ، إنما يكره ما كان على سبيل اللهو احتجاجا بما عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه دخل على أخيه البراء بن مالك وكان من زهاد الصحابة وكان يتغنى ، وبه أخذ شمس الأئمة السرخسي رحمه الله .

ومن المشايخ من كره جميع ذلك ، وبه أخذ شيخ الإسلام ، ويحمل حديث البراء بن مالك أنه كان ينشد الأشعار المباحة التي فيها ذكر الحكم والمواعظ ، فإن لفظ الغناء كما يطلق على المعروف يطلق على غيره . قال صلى الله عليه وسلم { من لم يتغن بالقرآن فليس منا } وإنشاد المباح من الأشعار لا بأس به . ومن المباح أن يكون فيه [ ص: 410 ] صفة امرأة مرسلة ، بخلاف ما إذا كانت بعينها حية ، وإذا كان كذلك فجاز أن يكون المصنف رحمه الله قائلا بتعميم المنع كشيخ الإسلام رحمه الله ، إلا أنا عرفنا من هذا أن التغني المحرم هو ما كان في اللفظ ما لا يحل كصفة الذكر والمرأة المعينة الحية ووصف الخمر المهيج إليها والدويرات والحانات والهجاء لمسلم أو ذمي إذ أراد المتكلم هجاءه لا إذا أراد إنشاد الشعر للاستشهاد به أو لتعلم فصاحته وبلاغته .

ويدل على أن وصف المرأة كذلك غير مانع ما سلف في كتاب الحج من إنشاد أبي هريرة رضي الله عنه وهو محرم :

قامت تريك رهبة أن تهضما ساقا بخنداة وكعبا أدرما

وإنشاد ابن عباس رضي الله عنهما

إن يصدق الطير ننك لميسا

لأن المرأة فيهما ليست معينة ، فلولا أن إنشاد ما فيه وصف امرأة كذلك جائز لم تقله الصحابة ، ومما يقطع به في هذا قول كعب بن زهير بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم :

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا     إلا أغن غضيض الطرف مكحول
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت     كأنه منهل بالراح معلول

وكثير في شعر حسان من هذا كقوله وقد سمعه النبي صلى الله عليه وسلم منه ولم ينكره في قصيدته التي أولها :

تبلت فؤادك في المنام خريدة     تسقي الضجيع ببارد بسام

فأما الزهريات المجردة عن ذلك المتضمنة في وصف الرياحين والأزهار والمياه المطربة كقول ابن المعتز :

سقاها بغابات خليج كأنه     إذا صافحته راحة الريح مبرد

يعني سقى تلك الرياض ، وقوله :

وترى الرياح إذا مسحن غديره     صقلنه ونفين كل قذاة
ما إن يزال عليه ظبي كارعا     كتطلع الحسناء في المرآة

فلا وجه لمنعه على هذا .

نعم إذا قيل ذلك على الملاهي امتنع وإن كان مواعظ وحكما للآلات نفسها لا لذلك التغني والله أعلم .

وفي المغني : الرجل الصالح إذا تغنى بشعر فيه فحش لا تبطل عدالته .

وفي مغني ابن قدامة : الملاهي نوعان : محرم وهو الآلات المطربة بلا غناء كالمزمار والطنبور ونحوه ، لما روى أبو أمامة أنه عليه الصلاة والسلام قال { إن الله تعالى بعثني رحمة للعالمين ، وأمرني بمحق المعازف والمزامير } . والنوع الثاني مباح وهو الدف في النكاح ، وفي معناه ما كان من حادث سرور . ويكره غيره لما عن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا سمع صوت الدف بعث ينظر ، فإن كان في وليمة سكت ، وإن كان في غيره عمد بالدرة . وفي الأجناس سئل محمد بن شجاع عن الذي يترنم عن نفسه ، قال : لا يقدح في شهادته .

وأما القراءة بالألحان فأباحها قوم وحظرها قوم . والمختار إن كانت الألحان لا تخرج الحروف عن نظمها وقدر ذواتها فمباح ، وإلا فغير مباح ، كذا ذكر . وقد قدمنا في باب الأذان ما يفيد أن التلحين لا يكون إلا مع تغيير مقتضيات الحروف فلا معنى لهذا التفصيل . ونقلنا هناك عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال للسائل عن القراءة بالتلحين وقد أجاب بالمنع : ما اسمك ؟ قال محمد ، فقال : أيعجبك

[ ص: 411 ] أن يقال لك يا موحامد ؟ هذا وأما النائحة فظاهر أنها أيضا في العرف لمن اتخذت النياحة مكسبة ، فأما إذا ناحت لنفسها فصرح في الذخيرة قال : لم يرد النائحة التي تنوح في مصيبتها بل التي تنوح في مصيبة غيرها ، اتخذت ذلك مكسبة لأنها ارتكبت معصية وهي الغناء لأجل المال فلا يؤمن أن ترتكب شهادة الزور لأجل ذلك وهو أيسر عليها من الغناء والنوح في مدة طويلة ، ولم يتعقب هذا أحد من المشايخ فيما علمت ، لكن بعض متأخري الشارحين نظر فيه بأنه معصية فلا فرق بين كونه للناس أو لا .

قال صلى الله عليه وسلم { لعن الله الصالقة والحالقة والشاقة } وقال عليه الصلاة والسلام { ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية } وهما في صحيح البخاري ، ولا شك أن النياحة ولو في مصيبة نفسها معصية ، لكن الكلام في أن القاضي لا يقبل شهادتها لذلك وذلك يحتاج إلى الشهرة ليصل إلى القاضي فإنما قيد بكونها للناس لهذا المعنى ، وإلا فهو يرد عليه مثله في قوله : ولا مدمن للشرب على اللهو ، يريد شرب الأشربة المحرمة خمرا أو غيره .

ولفظ محمد رحمه الله في الأصل : ولا شهادة مدمن خمر ، ولا شهادة مدمن السكر .

يريد من الأشربة المحرمة التي ليست خمرا ، فقال هذا الشارح يشترط الإدمان في الخمر ، وهذه الأشربة : يعني الأشربة المحرمة لسقوط العدالة مع أن شرب الخمر كبيرة بلا قيد الإدمان ، ولهذا لم يشترط الخصاف في شرب الخمر الإدمان ، لكن نص عليه في الأصل كما سمعت فما هو جوابه ؟ هو الجواب في تقييد المشايخ بكون النياحة للناس ، ثم هو نقل كلام المشايخ في توجيه اشتراط الإدمان أنه إنما شرط ليظهر عند الناس ، فإن من شربها سرا لا تسقط عدالته ولم يتنفس فيه بكلمة واحدة ، فكذا التي ناحت في بيتها لمصيبتها لا تسقط عدالتها لعدم اشتهار ذلك عند الناس ، وانظر إلى تعليل المصنف رحمه الله بعد ذكر الإدمان بأنه ارتكب محرم دينه مع أن ذلك ثابت بلا إدمان ، فإنما أراد أنه إذا أدمن حينئذ يظهر أنه مرتكب محرم دينه فترد شهادته ، بخلاف التي استمرت تنوح للناس لظهوره حينئذ فتكون كالذي يسكر ويخرج سكران وتلعب به الصبيان في رد شهادته .

وصرح بأن الذي يتهم بشرب الخمر لا تسقط عدالته ومنهم من فسر الإدمان بنيته وهو أن يشرب ومن نيته أن يشرب مرة أخرى ، وهذا هو معنى الإصرار ، وأنت تعلم أنه سيذكر رد شهادة من يأتي بابا من أبواب الكبائر التي يتعلق بها الحد وشرب الخمر منها من غيره توقف على نية أن يشرب ، ولأن النية أمر مبطن لا يظهر للناس ، والمداراة التي يتعلق بوجودها حكم القاضي لا بد أن تكون ظاهرة لا خفية لأنها معرفة والخفي لا يعرف والظهور بالإدمان الظاهر .

نعم بالإدمان الظاهر يعرف إصراره ، لكن بطلان العدالة لا يتوقف في الكبائر على الإصرار ، بل أن يأتيها ويعلم ذلك ، وإنما ذلك في الصغائر وقد اندرج فيما ذكرنا شرح ذلك . وأما من يلعب بالطيور فلأنه يورث غفلة ، وهذا كأنه بالخاصية المعروفة بالاستقراء .

وترد شهادة المغفل لعدم الأمن من زيادته ونقصه ، ولأنه يقف على عورات النساء لصعود سطحه ليطير طيره ، وهذا يقتضي منع صعود السطح مطلقا إلا أن يراد أن ذلك يكثر منه لهذه الداعية فإن الداعية إلى الشيء كالحرب في اقتضاء المواظبة عليه كما في لعب الشطرنج ، فإنه يشاهد فيه داعية عظيمة على المواظبة حتى أنهم ربما يستمرون النهار والليل لا يسألون عن أكل ولا شرب ، وهذا من أظهر وجه على أنه من دواعي الشيطان .

والأوجه أن اللعب بالطيور فعل مستخف به يوجب في الغالب اجتماعا مع أناس أراذل وصحبتهم وذلك مما يسقط العدالة . هذا وفي تفسير الكبائر كلام ، فقيل : هي [ ص: 412 ] السبع التي ذكرت في الحديث ، وهي الإشراك بالله ، والفرار من الزحف ، وعقوق الوالدين وقتل النفس بغير حق ، وبهت المؤمن ، والزنا ، وشرب الخمر ، وزاد بعضهم أكل الربا ، وأكل مال اليتيم .

وفي البخاري عنه عليه الصلاة والسلام { اجتنبوا السبع الموبقات . قالوا : يا رسول الله وما هن ؟ فذكرها وفيها السحر ، وأكل الربا وأكل مال اليتيم } وفيه عنه عليه الصلاة والسلام { ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس ، وكان متكئا فجلس فقال : ألا وقول الزور وشهادة الزور ، فما زال يكررها } الحديث .

وقد عد أيضا منها السرقة ، وورد في الحديث { من جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر } وقيل الكبيرة ما فيه حد ، وقيل ما ثبتت حرمته بنص القرآن ، وقيل ما كان حراما لعينه .

ونقل عن خواهر زاده أنها ما كان حراما محضا مسمى في الشرع فاحشة كاللواطة أو لم يسم بها لكن شرع عليها عقوبة محضة بنص قاطع ، إما في الدنيا بالحد كالسرقة والزنا وقتل النفس بغير حق ، أو الوعيد بالنار في الآخرة كأكل مال اليتيم ، ولا تسقط عدالة شارب الخمر بنفس الشرب لأن هذا الحد ما ثبت بنص قاطع ، إلا إذا داوم على ذلك فإن العدالة تزول بالإصرار على الصغائر فهذا أولى ، وهذا يخالف ما تقدم من عد شرب الخمر من الكبائر ، في نفس الحديث ، وذكره الأصحاب . وفي الخلاصة بعد أن نقل القول بأن الكبيرة ما فيه حد بنص الكتاب قال : وأصحابنا لم يأخذوا بذلك ، وإنما بنوا على ثلاثة معان : أحدها ما كان شنيعا بين المسلمين وفيه هتك حرمة الله تعالى .

والثاني : أن يكون فيه منابذة للمروءة والكرم ، وكل فعل يرفض المروءة والكرم فهو كبيرة .

والثالث : أن يصر على المعاصي والفجور . ولا يخفى ما في هذا من عدم الانضباط وعدم الصحة أيضا . وما في الفتاوى الصغرى : العدل من يجتنب الكبائر كلها حتى لو ارتكب كبيرة تسقط عدالته .

وفي الصغائر العبرة للغلبة لتصير كبيرة حسن ، ونقله عن أدب القاضي لعصام وعليه المعول ، غير أن الحكم بزوال العدالة بارتكاب الكبيرة يحتاج إلى الظهور ، فلذا شرط في شرب الخمر والسكر الإدمان ، والله سبحانه وتعالى أعلم . ولا تقبل شهادة من يجلس مجلس الفجور والمجانة على الشرب وإن لم يشرب ، لأن اختلاطه بهم وتركه الأمر بالمعروف يسقط عدالته وفي الذخيرة والمحيط : وكذا الإعانة على المعاصي ، والحث عليها من جملة الكبائر .

التالي السابق


الخدمات العلمية