صفحة جزء
[ ص: 499 ] ( كتاب الوكالة )


( كتاب الوكالة ) أعقب الشهادة بالوكالة لأن كلا من الشاهد والوكيل ساع في تحصيل مراد غيره من الموكل والمدعي معتمد عليه كل منهما . والوكالة لغة بفتح الواو وكسرها اسم للتوكيل وهو تفويض أمرك إلى من وكلته اعتمادا عليه فيه ترفها منك [ ص: 500 ] أو عجزا عنه . والوكالة أبدا إما للعجز أو للترفه وكل منهما للضعف ، ولذا كان معنى الوكل من فيه ضعف ، وفسر قول لبيد :

وكأني ملجم سوذانقا أجدليا كره غير وكل



والسوذانق والسوذق والسوذنيق : الشاهين ، والأجدل : الصقر نسب فرسه إليه ووكله جعله وكيلا : أي مفوضا إليه الأمر ، ومنه وكل أمره إلى فلان ، ومن هذا قول الحطيئة :

فلأيا قصرت الطرف عنهم بحرة     أمون إذا واكلتها لا تواكل



يعني إذا فوضت أمرها إليها لا توكل نفسها إلى أن أحثها على السير بل تستمر على جدها في السير ولا تضعف فيه ، أو توكل قبل الوكالة واتكلت عليه اعتمدت وأصله واتكلت قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ثم أبدلت تاء فأدغمت في تاء الافتعال .

وأما الوكيل فهو القائم بما فوض إليه من الأمور وهو فعيل بمعنى مفعول : أي موكول إليه الأمر ، فإذا كان قويا على الأمر قادرا عليه نصوحا تم أمر الموكل ، فإذا رضي سبحانه وتعالى أن يكون وكيلا عنك واعتمدت على غيره فهو الحرمان العظيم ، فكيف إذا أوجبه عليك لتحقق مصلحتك فضلا منه .

قال الله عز وجل { رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا } وعلى هذا استمرار إحسانه وبره لا إله غيره . وأما شرعا فالتوكيل إقامة الإنسان غيره مقامه في تصرف معلوم ، فلو لم يكن التصرف معلوما ثبت به أدنى تصرفات الوكيل وهو الحفظ فقط . وفي المبسوط : قال علماؤنا فيمن قال لآخر وكلتك بمالي : إنه يملك بهذا اللفظ الحفظ فقط . وقال الإمام المحبوبي : إذا قال لغيره أنت وكيل في كل شيء كان وكيلا بالحفظ

وأما سببها فدفع الحاجة المتحققة إليها كما سيظهر في كلام المصنف .

وأما ركنها فالألفاظ الخاصة التي بها تثبت من قوله وكلتك ببيع هذا أو شرائه مع اقترانه بقبول المخاطب صريحا أو دلالة فيما إذا سكت فلم يقبل أو يرد ثم عمل فإنه ينفذ ويظهر بالعمل قبوله . وروى بشر عن أبي يوسف أنه إذا قال لغيره أحببت أن تبيع عبدي هذا أو قال هويت أو رضيت أو وافقني أو شئت أو أردت أو وددت ونحو ذلك فهو توكيل . ولو قال لا أنهاك عن طلاق زوجتي لا يكون توكيلا ، فلو طلق لا يقع . ولو قال لعبده لا أنهاك عن التجارة لا يصير مأذونا .

وقال الفقيه أبو الليث : الجواب في الوكالة كذلك ، أما في الإذن يجب أن يكون مأذونا في قول علمائنا لأن العبد بسكوت المولى يصير مأذونا وهذا فوق السكوت ، ذكره في الذخيرة . ولا بد من كون المعنى أن قوله لا أنهاك في حال عدم مباشرة العبد البيع فوق سكوته إذا رآه يبيع ، وتقدم عن المحبوبي أنت وكيلي في كل شيء يكون بالحفظ ، قالوا : فلو زاد فقال أنت وكيلي في كل شيء جائز صنعك أو أمرك ; فعند محمد يصير وكيلا في البياعات والإجارات والهبات والطلاق والعتاق حتى ملك أن ينفق على نفسه من ماله ، وعند أبي حنيفة في المعاوضات فقط ، ولا يلي العتق والتبرع . وفي فتاوى بعض المتأخرين عليه الفتوى ، وكذا لو قال طلقت امرأتك ووقفت أرضك الأصح أنه لا يجوز .

ومثله إذا قال وكلتك في جميع أموري . ولو قال فوضت أمر مالي إليك يصير وكيلا بالحفظ فقط ، وكذا فوضت أمري إليك الصحيح أنه مثله [ ص: 501 ] وفي المبسوط : إذا وكله بكل قليل أو كثير فهو وكيل بالحفظ لا بتقاضي بيع ولا شراء ، وفوضت لك أمر مستغلاتي وكان أجرها ملك تقاضي الأجرة وقبضها ، وكذا أمر ديوني ملك التقاضي ، وأمر دوابي ملك الحفظ والرعي والتعليف ، وأمر مماليكي ملك الحفظ والنفقة ، وفوضت إليك أمر امرأتي ملك طلاقها واقتصر على المجلس ، بخلاف ما لو قال وكلتك .

والوصاية حالة الحياة وكالة كالوكالة بعد موته وصاية لأن المنظور إليه المعاني . وكلتك في كل أموري وأقمتك مقام نفسي ليس توكيلا عاما ، فإن كان له صناعة معلومة كالتجارة مثلا ينصرف إلى ذلك ، وإن لم يكن له صناعة معلومة ومعاملاته مختلفة فالوكالة باطلة ولو قال وكلتك في جميع الأمور التي يجوز التوكيل فيها فتوكيل عام يتناول البياعات والأنكحة . وأما شرطها فما سيأتي عند قوله : ومن شرط الوكالة أن يكون الوكيل ممن يملك التصرف وتلزمه الأحكام .

وأما صفتها فإنها من العقود الجائزة غير اللازمة حتى ملك كل من الموكل والوكيل العزل بلا رضا الآخر كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، ولكون شرعيتها غير لازمة رد المحققون قول بعض المشايخ فيما لو قال كلما عزلتك فأنت وكيل لا يملك عزله لأنه كلما عزله تتجدد وكالته ، فإن تعليق الوكالة بالشرط جائز فإنه يستلزم كون الوكالة من العقود اللازمة لا الجائزة فالحق إمكان عزله .

ثم اختلفوا في تحقيق لفظ العزل ; فقيل أن يكون عزلتك عن جميع الوكالات فينصرف إلى المعلق والمنجز . وقيل لا يصح لأن العزل فرع قيام الوكالة ، وذلك إنما يتحقق في المنجز لأن المعلق بالشرط عدم قبول وجود الشرط ، فالصحيح أن يقول عزلتك عن الوكالة المنفذة ورجعت عن الوكالة المعلقة والرجوع عنها صحيح وقال الفقيه أبو جعفر وظهير الدين : يجب أن يقدم الرجوع عن المعلقة على العزل عن المنفذة لأنه إذا قدم العزل عن المنفذة تتنجز وكالة أخرى من المعلقة .

وقيل هذا إنما يلزم إذا كان لفظ الرجوع يخص المعلقة احترازا عن قول أبي يوسف إن الإخراج عن المعلقة بلفظ العزل لا يصح . وأما على قول محمد إنه يجوز فلا وهو المختار .

وأما حكمها فجواز مباشرة الوكيل ما وكل به وثبوت حكمه للموكل . ولا بد من تقييده بكونه الحكم الأصلي المقصود بالذات من الفعل الموكل به ، وإلا فمن أحكام البيع التمكن من المطالبة بالثمن والمبيع والخصومة في ذلك وليس يثبت ذلك للموكل

التالي السابق


الخدمات العلمية