صفحة جزء
[ ص: 503 - 504 ] قال ( وتجوز الوكالة بالخصومة في سائر الحقوق ) لما قدمنا من الحاجة إذ ليس كل أحد يهتدي إلى وجوه الخصومات . وقد صح أن عليا رضي الله عنه وكل عقيلا ، وبعدما أسن وكل عبد الله بن جعفر رضي الله عنه ( وكذا بإيفائها واستيفائها إلا في الحدود والقصاص فإن الوكالة لا تصح باستيفائها مع غيبة الموكل عن المجلس ) لأنها تندرئ بالشبهات وشبهة العفو ثابتة حال غيبة الموكل ، بل هو الظاهر للندب الشرعي ، بخلاف غيبة الشاهد لأن الظاهر عدم الرجوع ، وبخلاف حالة الحضرة لانتفاء هذه الشبهة ، وليس كل أحد يحسن الاستيفاء .

فلو منع عنه [ ص: 505 ] ينسد باب الاستيفاء أصلا ، وهذا الذي ذكرناه قول أبي حنيفة رحمه الله ( وقال أبو يوسف رحمه الله : لا تجوز الوكالة بإثبات الحدود والقصاص بإقامة الشهود أيضا ) ومحمد مع أبي حنيفة ، وقيل مع أبي يوسف رحمهم الله ، وقيل هذا الاختلاف في غيبته [ ص: 506 ] دون حضرته لأن كلام الوكيل ينتقل إلى الموكل عند حضوره فصار كأنه متكلم بنفسه . له أن التوكيل إنابة وشبهة النيابة يتحرز عنها في هذا الباب ( كما في الشهادة وكما في الاستيفاء ) ولأبي حنيفة رحمه الله أن الخصومة شرط محض لأن الوجوب مضاف إلى الجناية والظهور إلى الشهادة فيجري فيه التوكيل كما في سائر الحقوق ، وعلى هذا الخلاف التوكيل بالجواب من جانب من عليه الحد والقصاص .

وكلام أبي حنيفة رحمه الله فيه أظهر لأن الشبهة لا تمنع الدفع ، غير أن إقرار الوكيل غير مقبول عليه لما فيه من شبهة عدم الأمر به .


( قوله تجوز الوكالة بالخصومة في سائر الحقوق ) لما قدمنا من الحاجة إلى ذلك فإنه ليس كل أحد يهتدي إلى وجوه الخصومات التي بها يثبت حقه أو يندفع بها عنه ما يدعيه الآخر .

وكذا يجوز التوكيل بإيفاء الحقوق واستيفائها إلا في الحدود والقصاص في النفس ، وما دون النفس فإن الوكالة لا تصح بإيفائها ولا باستيفائها مع غيبة الموكل عن المجلس ، وهذا يتعلق بالاستيفاء فقط فالنفي مطلق ، إذ الإيفاء ليس إلا بتسليم ظهره أو نفسه لإقامة الواجب ، وليس ذلك الأمر إلا من الجاني وليس هو الوكيل ، فكان ذلك قيدا في الاستيفاء ، وإنما لا يجوز الاستيفاء حال غيبة الموكل لأنها : أي الحدود والقصاص تندرئ بالشبهات ، وشبهة العفو ثابتة حال غيبته بل هو الظاهر للندب الشرعي ، قال تعالى { وأن تعفوا أقرب للتقوى } بخلاف غيبة الشاهد بالحد والقصاص فإنه يستوفي ذلك مع غيبته لأن الشبهة فيه ليس إلا الرجوع ، وليس قريبا في الظاهر ولا ظاهر إلا من جهة الأصل ولا الغالب لأن الأصل الصدق خصوصا مع العدالة والرجوع ليس غالبا ، بل من نحو ثمانمائة عام لا يعرف إلا ما وقع عند علي رضي الله تعالى عنه ، والله سبحانه أعلم هل ندر عند غيره أم لا ، وهو بمنزلة ما لا وجود له فلا يصير شبهة يدار باعتبارها حكم ( بخلاف ) الاستيفاء ( حال حضرة الموكل ) فإن الوكالة به تجوز ، [ ص: 505 ] فإن المستحق قد لا يحسن الاستيفاء ، فلو امتنع التوكيل به بطل هذا الحق وهذا في القصاص . وأما الحدود فإن الذي يلي استيفاءها الإمام ، وقد لا يحسن فجاز توكيل الجلاد وإلا امتنع .

ثم لا يخفى أن تعليل المصنف النفي حالة الغيبة بثبوت شبهة العفو إنما يستقيم في القصاص دون الحدود لأن العفو فيها لا يتحقق أصلا كما أسلفناه في الحدود ، ولو كان حد قذف وسرقة لأن الحق صار لله سبحانه وحده ، حتى لو عفا المسروق منه لا يلتفت إليه ويقطعه ، فالوجه أن يضم ما يجري فيه من إمكان ظهور شبهة أو غلط ، فبعد الاستيفاء لا يمكن تداركه فيؤخر إلى أن يحضر نفس المستحق احتياطا للدرء ( قوله وهذا الذي ذكرناه ) أي من جواز التوكيل بإثبات الحدود : أي من جهة المقذوف والمسروق منه بإقامة البينة على السبب

( قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف : لا تجوز الوكالة بإثباتها ) وقول محمد مضطرب تارة يضم إلى أبي يوسف وتارة إلى أبي حنيفة ، وظاهر كلام المصنف ترجيحه ، وكذا فعل في المبسوط ( وقيل هذا الخلاف ) بين أبي حنيفة وأبي يوسف ( عند غيبة الموكل ) فلو وكل بإثباتها وهو [ ص: 506 ] حاضر جاز اتفاقا

( لأن كلام الوكيل ينتقل إلى الموكل عند حضوره . لأبي يوسف أن التوكيل إنابة وشبهة النيابة يحترز عنها في هذا الباب ) أي باب الحدود والقصاص حتى لا تثبت بالشهادة على الشهادة ولا بكتاب القاضي إلى القاضي ولا بشهادة النساء مع الرجال فصار كالتوكيل بالاستيفاء حال الغيبة ( ولأبي حنيفة رحمه الله أن الخصومة شرط محض ) لثبوت الحد ( لأن وجوبه ) إنما ( يضاف إلى ) نفس ( الجناية ) لا إلى الخصومة ( والظهور ) أي ظهور الجناية إنما يضاف ( إلى ) نفس ( الشهادة ) لا إلى السعي في إثباتها فكان السعي في ذلك حقا ( كسائر الحقوق ) فيجوز لقيام المقتضى وانتفاء المانع .

وقوله سائر الحقوق : أي باقيها : أي فتجوز الوكالة بهذا الحق كما في سائر الحقوق ، ولا حاجة إلى تفسيره بجميع الحقوق معولا على ما في صحاح الجوهري ثم تخطئته بأنه إنما هو بمعنى الباقي لا الجميع . هذا وقد يمنع انتفاء المانع ، فإن هذه الخصومة ليس إلا السعي في إثبات سبب الحد والاحتيال فيه ووضع الشرع الاحتيال لإسقاطه . فإن قيل : لو صح هذا لم يجز إثباتها من الموكل نفسه على ما ذكرت لأنه ساع إلى آخره وذلك يخل بالإجماع .

قلنا الفرق أن الوكالة فيها زيادة تحيل وزيادة تكلف لإثباته لأن الظاهر أنه يوكل للاستعانة عليه لضعفه هو عن الإثبات والشرع أطلق في إثباته لا بذلك التكلف الزائد والتهالك فيه ، بل إذا عجز ترك لأنه علة الدرء لأنه صلى الله عليه وسلم قال للذين اتبعوا ماعزا حين هرب لما أذلقته الحجارة { هلا تركتموه ؟ } أو نحو ذلك ( قوله وعلى هذا الخلاف التوكيل بالجواب من جانب من عليه الحد والقصاص ) أجازه أبو حنيفة ومنعه أبو يوسف ( و ) لا شك أن ( كلام أبي حنيفة فيه أظهر ) منه بالوكالة بإثباتها ( لأن الشبهة ) التي بها منع أبو يوسف هناك ( لا تمنع الدفع ) بل تقتضي أن يقول بجواز الوكالة بدفعه ، ثم لا يجوز للموكل الإقرار على موكله [ ص: 507 ] كما هو قول أبي حنيفة فخلافه هذا عجيب ، والله تعالى أعلم .

ثم وجه عدم صحة إقرار الوكيل من جهة المطلوب هنا وجوازه في غيره أن الوكالة بالخصومة انصرفت إلى الجواب مطلقا نوعا من المجاز فنعتبر عمومه فيما لا يندرئ بالشبهات ونخص منه الاعتراف فيما يندرئ بالشرع العام في الدرء بالشبهات ، وفي اعترافه شبهة عدم الأمر به

التالي السابق


الخدمات العلمية