صفحة جزء
[ ص: 423 ] باب صلاة الوتر

( الوتر واجب عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا سنة ) لظهور آثار السنن فيه حيث لا يكفر جاحده ولا يؤذن [ ص: 424 ] له . ولأبي حنيفة رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام { إن الله تعالى زادكم صلاة ألا وهي الوتر ، فصلوها ما بين [ ص: 425 ] العشاء إلى طلوع الفجر } أمر وهو للوجوب [ ص: 426 ] ولهذا وجب القضاء بالإجماع ، وإنما لم يكفر جاحده لأن وجوبه ثبت بالسنة وهو المعني بما روي عنه أنه سنة وهو يؤدى في وقت العشاء فاكتفى بأذانه وإقامته .


[ ص: 423 ] باب صلاة الوتر )

( قوله حيث لا يكفر جاحده ) لا يفيد إذ إثبات اللازم لا يستلزم إثبات الملزوم المعين إلا إذا ساواه وهو هاهنا أعم ، فإن عدم الإكفار بالجحد لازم الوجوب كما هو لازم السنة ، والمدعى الوجوب لا الفرض وإن قصد الاستدلال بالمجموع منه مع عدم التأذين فأقرب على ما فيه ، فالثاني يستقل ، والحق أنه لم يثبت عندهما دليل الوجوب فنفياه ، وثبت عنده وهو الحديث المذكور .

وقد روي عن عدة من الصحابة عمرو بن العاص وعقبة بن عامر وابن عباس وابن عمر وأبي سعيد الخدري ، وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وخارجة بن حذافة وأبي نضرة الغفاري ، فعن عقبة وعمرو رواه ابن راهويه في مسنده ، حدثنا سويد بن عبد العزيز ، حدثنا قرة بن عبد الرحمن عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني عن عمرو بن العاص وعقبة بن عامر عنه صلى الله عليه وسلم قال { إن الله زادكم صلاة هي لكم خير من حمر النعم . الوتر وهي لكم فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر } وضعف ابن معين وغيره قرة وعن ابن عباس رواه الطبراني والدارقطني عن النضر أبي عمر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وضعفه الدارقطني بالنضر . وعن ابن عمر أخرجه الدارقطني في غرائب مالك ، وضعفه بحميد بن أبي الجون وهو { إن الله زادكم صلاة وهي الوتر } وعن الخدري رواه الطبراني وفيه أيضا مثل ما في حديثه عن ابن عباس وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أخرجه الدارقطني .

وفيه { أنه صلى الله عليه وسلم أمرنا فاجتمعنا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الله زادكم صلاة فأمرنا بالوتر } وضعفه بمحمد بن عبيد الله العزرمي . وعن أبي نضرة رواه الحاكم من حديث ابن لهيعة عن عمرو بن العاص قال : سمعت أبا نضرة الغفاري يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { إن الله زادكم صلاة وهي الوتر ، فصلوها فيما بين العشاء إلى صلاة الصبح } وسكت عنه وأعل بابن لهيعة .

وعن خارجة رواه الحاكم وأبو داود والترمذي وابن ماجه { خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله أمدكم بصلاة خير لكم من حمر النعم وهي الوتر ، فجعلها لكم فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر } قال الحاكم صحيح ، ولم يخرجاه لتفرد التابعي عن الصحابي وقول الترمذي غريب لا ينافي الصحة لما عرف ، ولذا يقول مرارا في كتابه حسن صحيح غريب .

وما نقل عن [ ص: 424 ] البخاري من أنه أعله بقوله لا يعرف سماع بعض هؤلاء من بعض فبناء على اشتراطه العلم باللقي ، والصحيح الاكتفاء بإمكان اللقي . وإعلال ابن الجوزي له بابن إسحاق وبعبد الله بن راشد نقل تضعيف ابن راشد عن الدارقطني ، أما ابن إسحاق فثقة ثقة لا شبهة عندنا في ذلك ولا عند محققي المحدثين ، ولو سلم فقد تابعه الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب .

وأما ما نقله عن الدارقطني من تضعيف ابن راشد فغلطه فيه صاحب التنقيح لأن الدارقطني إنما ضعف عبد الله بن راشد البصري مولى عثمان بن عفان الراوي عن أبي سعيد الخدري ، وأما هذا راوي حديث خارجة فهو الروقي أبو الضحاك المصري ، ذكره ابن حبان في الثقات انتهى . ومتابعة الليث والتصريح بكون الروقي كلاهما في إسناد النسائي للحديث المذكور في كتاب الكني فتم أمر هذا الحديث على أتم وجه في الصحة ، ولو لم يكن هذا كان في كثرة طرقه المضعفة ارتفاع له إلى الحسن ، بل بعضها حسن حجة وهو طريق ابن راهويه .

وقرة إن قال أحمد فيه منكر الحديث فقد قال ابن عدي : لم أر له حديثا منكرا جدا ، وأرجو أن لا بأس به ، وقد ذكره ابن حبان في الثقات : بقي الشأن في وجه الاستدلال به ، فقيل من لفظ زادكم فإن الزيادة لا تتحقق إلا عند حصر المزيد عليه والمحصور الفرائض لا النوافل ، ويشكل عليه ما ثبت بسند صحيح أخرجه الحاكم والبيهقي عنه صلى الله عليه وسلم { إن الله تعالى زادكم صلاة إلى صلاتكم هي خير لكم من حمر النعم ألا وهي الركعتان قبل صلاة الفجر } فإن اقتضى لفظ زادكم الحصر فإنه يجب في هذا كون المحصورة المزيدة عليها السنن الرواتب ، وحينئذ فالمحصورة أعم من الفرائض والسنن الراتبة ، فلا يستلزم لفظ زادكم كون المزيد فرضا لجواز كونه زيادة على المحصورة التي ليست بفرض : أعني السنن .

وقد يكون هذا هو الصارف للمصنف عن التمسك بهذه الطريقة مع شهرتها بينهم إلى الاقتصار على التمسك بلفظ الأمر ، لكن لفظ الأمر إنما هو في حديث ابن لهيعة وعمرو بن شعيب وقد ضعف ، فالأولى التمسك فيه بما في أبي داود عن أبي المنيب عبيد الله العتكي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الوتر حق ، فمن لم يوتر ليس مني ، الوتر حق فمن لم يوتر فليس مني ، الوتر حق فمن لم يوتر فليس مني } ورواه الحاكم وصححه ، وقال أبو المنيب ثقة ، وثقه ابن معين أيضا .

وقال [ ص: 425 ] ابن أبي حاتم : سمعت أبي يقول صالح الحديث ، وأنكر على البخاري إدخاله في الضعفاء ، وتكلم فيه النسائي وابن حبان ، وقال ابن عدي : لا بأس به فالحديث حسن . وأخرج البزار عن حكام عن عنبسة عن جابر عن أبي معشر عن إبراهيم عن الأسود عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم { الوتر واجب على كل مسلم } وقال لا نعلمه يروى عن ابن مسعود إلا من هذا الوجه .

فإن قيل الأمر قد يكون للندب والحق هو الثابت ، وكذا الواجب لغة ، ويجب الحمل عليه دفعا للمعارضة ولقيام القرينة الدالة عليه . أما المعارضة فما أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما { أنه صلى الله عليه وسلم كان يوتر على البعير } وما أخرجاه أيضا { أنه صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن وقال له فيما قال : فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة } قال ابن حبان : وكان بعثه قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بأيام يسيرة .

وفي موطأ مالك أنه صلى الله عليه وسلم توفي قبل أن يقدم معاذ من اليمن وما أخرجه ابن حبان { أنه صلى الله عليه وسلم قام بهم في رمضان فصلى ثماني ركعات وأوتر ثم انتظروه من القابلة فلم يخرج إليهم فسألوه فقال خشيت أن تكتب عليكم الوتر هذه } أحسن ما يعارض لهم به ، ولهم غيرها مما لم يسلم من ضعف أو عدم تمام دلالة .

وأما القرينة الصارفة للوجوب إلى اللغوي فما في السنن إلا الترمذي ، قال صلى الله عليه وسلم { الوتر حق واجب على كل مسلم ، فمن أحب أن يوتر بخمس فليوتر ، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل ، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليوتر } ورواه ابن حبان والحاكم وقال على شرطهما وجه القرينة أنه حكم بالوجوب ثم خير فيه بين خصال إحداها أن يوتر بخمس ، فلو كان واجبا لكان كل خصلة تخير فيها تقع واجبة على ما عرف في الواجب المخير ، والإجماع على عدم وجوب الخمس فلزم صرفه إلى ما قلنا والجواب عن الأول أنه واقعة حال لا عموم لها فيجوز كون ذلك كان لعذر ، والاتفاق على أن الفرض يصلى على الدابة لعذر الطين والمطر ونحوه ، أو كان قبل وجوبه لأن وجوبه لم يقارن وجوب الخمس بل متأخر . وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم كان ينزل للوتر .

روى الطحاوي عن حنظلة بن أبي سفيان عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يصلي على راحلته ويوتر بالأرض ويزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ، فدل أن وتره ذلك كان إما حالة عدم وجوبه أو للعذر . وفي شرح الكنز أنه لا يجوز على أصلهم أن الوتر فرض على النبي صلى الله عليه وسلم . ومن العجب أنهم يزعمون جواز هذا الفرض على الراحلة ، ثم يقولون لخصمهم لو كان فرضا لما أدي على الراحلة انتهى .

وهو غير لازم ، أما الأول فلأن المرجح عندهم نسخ وجوبه في حقه صلى الله عليه وسلم ، وأما الثاني فيصح قولهم ذلك على وجه الإلزام ، فإنا لا نقول بجوازه على الدابة لوجوبه ، وعن الثاني أنه لم لا يجوز أن يكون الوجوب كان بعد سفره ، وعن الثالث كالأول في أنه يجوز كونه قبل وجوبه أو المراد المجموع من صلاة الليل المختتمة بوتر ونحن نقول بعدم وجوبه ، وذلك أنهم كانوا يطلقون على صلاة الليل كذلك ذلك لأن المجموع حينئذ فرد وذلك وتر لا شفع ، وسيأتي في باب النوافل ما يصرح بذلك للمتأمل ، بل هذه الإرادة ظاهرة من نفس الحديث المورد فإنه صلى بهم ثماني ركعات وأوتر ثم تأخر في القابلة : يعني عما فعله في السابقة ألبتة ، وعلل تأخره عن ذلك بخشية أن يكتب الوتر فكان المراد بالوتر ظاهر الصلاة التي فعلت مختتمة بالوتر .

ويدل [ ص: 426 ] على ذلك ما صرح به في رواية البجلي بهذا الحديث من قوله خشية أن تكتب عليكم صلاة الليل . وعن القرينة المدعاة أن ذلك كان قبل أن يستقر أمر الوتر فيجوز كونه كان أولا كذلك . وفي مسلم عن عائشة رضي الله عنها { أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء منها إلا في آخرها } فدل أن الوتر كان أولا خمسة ، وأجمعنا على أنه يجلس على رأس كل ركعتين وهو يفيد خلافه .

ويدل على ذلك أيضا ما في الدارقطني أنه صلى الله عليه وسلم قال { لا توتر بثلاث ، أوتر بخمس أو سبع } والإيتار بثلاث جائز إجماعا ، فعلم أن هذا وما شاكله كان قبل أن يستقر أمر الوتر ، وكيف يحمل على اللغوي وهو محفوف بما يؤكد مقتضاه من الوجوب ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم { فمن لم يوتر فليس مني } مؤكد بالتكرار ثلاثا على ما تقدم ( قوله ولهذا وجب القضاء بالإجماع ) أي ثبت ، وإلا فوجوب القضاء محل النزاع أيضا ، والمعنى أنه صلاة مقضية مؤقتة فتجب كالمغرب ، أما إنها مؤقتة فلأن المستحب في وقتها السحر ، وذلك أشد ما يكون كراهة في العشاء ، فلو كان سنة تبعا للعشاء لم يتخالف وقتهما في الصفة بل كان المستحب فيه المستحب فيه ( قوله وهو المعني بما روي عن أبي حنيفة أنه سنة ) وعنه أنه فرض : أي عملي وهو الواجب فعنه ثلاث روايات والمراد بها واحد وهو الوجوب .

وفي الفتاوى : لو اجتمعت أهل قرية على ترك الوتر أدبهم أو حبسهم ، فإن لم يمتنعوا قاتلهم فإن امتنعوا عن أداء السنن قال مشايخ بخارى يقاتلهم كالفرائض

التالي السابق


الخدمات العلمية