صفحة جزء
[ ص: 351 ] باب الاستثناء وما في معناه قال ( ومن استثنى متصلا بإقراره صح الاستثناء ولزمه الباقي ) لأن الاستثناء مع الجملة عبارة عن الباقي ولكن لا بد من الاتصال ، [ ص: 352 ] ( وسواء استثنى الأقل أو الأكثر ، فإن استثنى الجميع لزمه الإقرار وبطل الاستثناء ) لأنه تكلم بالحاصل بعد الثنيا ولا حاصل بعده فيكون رجوعا ، [ ص: 353 ] وقد مر الوجه في الطلاق .


( باب الاستثناء وما في معناه ) لما ذكر موجب الإقرار بلا مغير شرع في بيان موجبه مع المغير وهو الاستثناء وما في معناه في كونه مغيرا كالشرط وغيره لأن الأصل عدم التغيير ( قال ) أي القدوري في مختصره ( ومن استثنى متصلا بإقراره ) أي موصولا بإقراره لا مفصولا عنه ( صح الاستثناء ولزمه الباقي ) أي لزم المقر الباقي بعد الثنيا ( لأن الاستثناء مع الجملة ) أي مع مصدر الكلام ( عبارة عن الباقي ) فإن معنى قوله علي عشرة إلا واحدا معنى علي تسعة لما عرف في الأصول ( ولكن لا بد من الاتصال ) لأن الاستثناء بيان تغيير [ ص: 352 ] فيصح بشرط الوصل ، وهذا قول عامة العلماء .

ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما جواز التأخير وقد عرف ذلك أيضا في الأصول ( وسواء استثنى الأقل ) أي الأقل من الباقي كما في قوله لفلان علي ألف إلا أربعمائة ( أو الأكثر ) منه كما في قوله لفلان علي ألف إلا ستمائة : يعني لا فصل بين كون المستثنى أقل أو أكثر وهو أيضا قول الأكثر . وفي العناية : وقال الفراء : استثناء الأكثر لا يجوز لأن العرب لم تتكلم بذلك .

وفي معراج الدراية : وقال الفراء : لا يجوز استثناء الأكثر من الأقل . وعن أحمد مثله انتهى .

وفي الكافي وعن أبي يوسف وهو قول مالك والفراء : إنه لا يصح استثناء الأكثر انتهى .

ويوافقه ما ذكره شيخ الإسلام خواهر زاده في مبسوطه حيث قال : وأما إذا قال : لفلان علي ألف إلا تسعمائة وخمسين درهما فإن الاستثناء يصح ويكون عليه خمسون درهما ، وهذا عندنا وعند مالك والفراء ، وهو قول أبي يوسف على ما روي عنه في غير رواية الأصول لا يصح استثناء الأكثر ويلزمه الألف لأن المستثنى أكثر من المستثنى منه انتهى .

قال جماعة من الشراح : والدليل على جواز ذلك عندنا قوله تعالى { قم الليل إلا قليلا . نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه } أقول : في كون هذه الآية الكريمة دليلا على جواز استثناء الأكثر نظر ; لأن صاحب الكشاف قال في تفسيرها : نصفه بدل من الليل ، وإلا قليلا استثناء من النصف ، كأنه قال : قم أقل من نصف الليل ، ثم قال : وإن شئت جعلت نصفه بدلا من قليلا ، فعلى كلا الوجهين لم يكن الاستثناء المذكور من قبيل استثناء الأكثر ، أما على الوجه الأول فلأن المستثنى لا يكون حينئذ قدرا معينا مخصوصا حتى يحكم بأنه أكثر من الباقي .

نعم يعلم حينئذ أنه أقل من النصف لكن يجوز أن يكون ذلك أقل من الباقي أيضا ، وأما على الوجه الثاني فلأن المستثنى يكون حينئذ النصف لا الأكثر ، والمدعى جواز استثناء الأكثر ، فالأظهر في الاستدلال عليه ما ذكر في كثير من الشروح ، وهو أن طريق صحة الاستثناء أن يجعل عبارة عما وراء المستثنى ، ولا فرق في ذلك بين استثناء الأقل والأكثر ، وعدم تكلم العرب به لا يمنع صحته إذا كان موافقا لطريقهم ; ألا يرى أن استثناء الكسر لم تتكلم به العرب وكان صحيحا ، ويوافقه ما ذكره صاحب البدائع حيث قال : وأما استثناء الكثير من القليل بأن قال لفلان علي عشرة دراهم إلا تسعة فجائز في ظاهر الرواية ويلزمه درهم ، إلا ما روي عن أبي يوسف أنه لا يصح وعليه العشرة .

والصحيح جواب ظاهر الرواية لأن المنقول عن أئمة اللغة أن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا ، وهذا المعنى كما يوجد في استثناء القليل من الكثير يوجد في استثناء الكثير من القليل ، إلا أن هذا النوع من الاستثناء غير مستحسن عند أهل اللغة لأنهم إنما وضعوا الاستثناء لحاجتهم إلى استدراك الغلط ، ومثل هذا الغلط يندر وقوعه غاية الندرة فلا حاجة إلى استدراكه لكنه يحتمل الوقوع في الجملة فيصح ، انتهى كلامه .

ثم إن لجواز استثناء الأكثر دليلا آخر قويا ذكره ابن الحاجب في مختصره من أصول الفقه ، وهو قوله تعالى { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } فإن الغاوين أكثر بدليل قوله تعالى { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } ( فإن استثنى الجميع ) أي الكل بأن قال لفلان علي ألف درهم إلا ألف درهم ( لزمه الإقرار ) أي لزم المقر جميع ما أقر به ( وبطل الاستثناء ) أي بطل ما ذكره في صورة الاستثناء ( لأنه ) أي لأن الاستثناء ( تكلم بالحاصل بعد الثنيا ) أي بالباقي بعد الثنيا ( ولا حاصل بعده ) أي ولا باقي بعد استثناء الجميع فلم يتحقق معنى الاستثناء ( فيكون رجوعا ) أي فيكون ما ذكره في صورة الاستثناء رجوعا [ ص: 353 ] عن الإقرار لا محالة لا استثناء حقيقيا ، والرجوع عن الإقرار في حقوق العباد باطل وإن كان موصولا ; لأنه إنما يصح موصولا ما يكون فيه معنى البيان لأول كلامه ، والإبطال ليس من البيان في شيء ، كذا في المبسوط وغيره .

قال في غاية البيان : وكذلك إذا استثنى أكثر من الألف لأنه لما لم يجز استثناء الألف من الألف فلأن لا يجوز استثناء الألف وزيادة أولى . قال المصنف ( وقد مر الوجه في الطلاق ) أي في فصل الاستثناء من كتاب الطلاق . اعلم أن هذا الذي ذكره فيما إذا كان المستثنى من جنس لفظ المستثنى منه ، وأما إذا كان من غير جنسه صح الاستثناء وإن أتى على جميع المستثنى منه نحو أن يقول : نسائي طوالق إلا هؤلاء وليس له نساء إلا هؤلاء يصح الاستثناء ولم تطلق واحدة منهن ، ولو قال نسائي طوالق إلا نسائي لم يصح الاستثناء وطلقن كلهن ، وكذا لو قال عبيدي أحرار إلا عبيدي لم يصح الاستثناء وعتقوا كلهم ، ولو قال عبيدي أحرار إلا هؤلاء وليس له عبيد غير هؤلاء لم يعتق واحد منهم ، وكذلك لو قال أوصيت بثلث مالي إلا ألف درهم ومات وثلث ماله ألف درهم صح الاستثناء وبطلت الوصية ، ولو قال أوصيت بثلث مالي لفلان إلا ثلث مالي كان للموصى له ثلث ماله ولا يصح الاستثناء ، كذا في شرح الطحاوي .

ولقد أفصح المصنف عن هذا في الباب الأول من أيمان الزيادات حيث قال : استثناء الكل من الكل إنما لا يصح إذا كان الاستثناء بعين ذلك اللفظ ، أما إذا كان بغير ذلك اللفظ فيصح كما إذا : قال نسائي طوالق إلا نسائي لا يصح الاستثناء ، ولو قال إلا عمرة وزينب وسعاد حتى أتى على الكل صح انتهى .

وقال صاحب النهاية بعد نقل ذلك هاهنا : وهذا الفقه وهو أن الاستثناء تصرف لفظي فيبتنى على صحة اللفظ لا على صحة الحكم ; ألا يرى أنه إذا قال لامرأته أنت طالق ست طلقات إلا أربعا يصح الاستثناء حتى يقع تطليقتان ، وإن كانت الست لا صحة لها من حيث الحكم لأن الطلاق لا مزيد له على الثلاث ومع هذا لا يجعل كأنه قال أنت طالق ثلاثا إلا أربعا لما ذكرنا أن صحة الاستثناء تتبع صحة اللفظ دون الحكم . وتحقيقه هو أن الاستثناء متى وقع بغير اللفظ الأول فهو يصلح لإخراج بعض ما تناوله صدر الكلام أو للتكلم بالحاصل بعد الثنيا لأنه إنما صار كلا ضرورة عدم ملكه فيما سواه لا لأمر يرجع إلى ذات اللفظ ويتصور أن يدخل في ملكه غير هذه الجواري أو العبيد ، وإن كان كذلك صح الاستثناء ، بخلاف ما إذا وقع الاستثناء بعين ذلك اللفظ لأنه لا يصلح لإخراج بعض ما تناوله ولا للتكلم بالحاصل بعد الثنيا فلم يصح الاستثناء انتهى كلامه . واقتفى أثره صاحب الكفاية في بيان الفقه والتحقيق بعين تحريره وصاحب العناية أيضا ولكن بتغيير أسلوب تحريره . أقول : التحقيق الذي ذكروه مما لا يساعده لفظ المصنف في الزيادات ; لأن قولهم : إن الاستثناء متى وقع بغير اللفظ الأول فهو يصلح لإخراج بعض ما تناوله صدر الكلام أو للتكلم بالحاصل بعد الثنيا إنما يتمشى عند كون غير اللفظ الأول أخص من اللفظ الأول بحسب المفهوم ، وأما عند كونه مساويا له بحسب المفهوم كما لو قال نسائي كذا إلا حلائلي أو إلا أزواجي ، أو كونه أعم منه بحسبه كما لو قال هؤلاء طوالق إلا نسائي فلا يتمشى ذلك [ ص: 354 ] قطعا . وقول المصنف في الزيادات : أما إذا كان بغير ذلك اللفظ فيصح بتناول ما كان مساويا له وما كان أعم منه أيضا لأن كل واحد منهما غير ذلك اللفظ لا عينه فيقتضي أن يصح الاستثناء فيهما أيضا ، وليس الأمر كذلك كما صرحوا به . قال في التوضيح بعد أن قال الاستثناء المستغرق باطل .

وأصحابنا قيدوه بلفظه أو بما يساويه نحو عبيدي أحرار إلا عبيدي أو إلا مماليكي لكن إذا استثنى بلفظ يكون أخص منه في المفهوم لكن في الوجود يساويه يصح نحو عبيدي أحرار إلا هؤلاء ولا عبيد له سواهم انتهى . وقال بعض الأفاضل في أصوله بعد أن قال الاستثناء باطل بالاتفاق : وقال مشايخنا : هذا إذا كان بلفظه نحو نسائي طوالق إلا نسائي ، أو بما يساويه نحو نسائي طوالق إلا حلائلي أو بأعم منه ، وإن استثنى بلفظ يكون أخص منه في المفهوم يصح وإن كان يساويه في الوجود نحو نسائي طوالق إلا زينب وهند وبكرة وعمرة أو إلا هؤلاء ولا نساء له سواهن حتى لا تطلق واحدة منهن ، انتهى كلامه . وقد ذكرنا فيما مر نقلا عن غاية البيان عدم صحة الاستثناء فيما إذا كان المستثنى أكثر من المستثنى منه : أي أعم منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية