صفحة جزء
[ ص: 8 ] قال : ( والعارية أمانة إن هلكت من غير تعد لم يضمن ) وقال الشافعي : يضمن ; لأنه قبض مال غيره لنفسه لا عن استحقاق فيضمنه ، والإذن [ ص: 8 ] ثبت ضرورة الانتفاع فلا يظهر فيما وراءه ، ولهذا كان واجب الرد وصار كالمقبوض على سوم الشراء . ولنا أن اللفظ لا ينبئ عن التزام الضمان ; لأنه لتمليك المنافع بغير عوض أو لإباحتها ، والقبض لم يقع تعديا لكونه مأذونا فيه ، [ ص: 9 ] والإذن وإن ثبت لأجل الانتفاع فهو ما قبضه إلا للانتفاع فلم يقع تعديا ، وإنما وجب الرد مؤنة كنفقة المستعار فإنها على المستعير لا لنقض القبض .


( قوله : ولهذا كان واجب الرد وصار كالمقبوض على سوم الشراء ) قال صاحب العناية في شرح هذا المقام : ولهذا أي ولكون الإذن ضروريا كان واجب الرد : يعني مؤنة الرد واجبة على المستعير كما في الغصب ، وصار كالمقبوض على سوم الشراء . فإنه وإن كان بإذن لكن لما كان قبض مال غيره لنفسه لا عن استحقاق إذا هلك ضمن فكذا هذا . ا هـ كلامه . أقول : حمل الشارح المذكور قول المصنف ولهذا على الإشارة إلى كون الإذن ضروريا ، واقتفى أثره الشارح العيني وسكت سائر الشراح عن البيان بالكلية . والحق عندي أنه إشارة إلى قوله ; لأنه قبض مال غيره لنفسه لا عن استحقاق ، فالمعنى ولكونه قبض مال غيره لنفسه لا عن استحقاق كان واجب الرد ، وصار كالمقبوض على سوم الشراء .

وإنما كان هذا هو الحق عندي لوجهين : أحدهما أن الظاهر أن قوله وصار كالمقبوض على سوم الشراء عطف على قوله كان واجب الرد ، فبمقتضى كون المعطوف في حكم المعطوف عليه بالنظر إلى ما قبله يصير المعنى على تقدير أن يكون لفظ هذا إشارة إلى كون الإذن ضروريا ، ولكون الإذن ضروريا صار كالمقبوض على سوم الشراء ، والظاهر أن الإذن ليس بضروري في المقبوض على سوم الشراء . وأما على تقدير أن يكون إشارة إلى ما ذكرته فيصير المعنى ولكونه قبض مال غيره لنفسه لا عن استحقاق صار كالمقبوض على سوم الشراء . ولا شك أن الأمر كذلك في المقبوض على سوم الشراء . وثانيهما أن حديث كون الإذن ضروريا جواب عن سؤال مقدر لا عمدة في الاستدلال ، بخلاف قوله ; لأنه قبض مال غيره لنفسه لا عن استحقاق . ولا يخفى أن ما هو العمدة في الاستدلال أحق بأن يفرع عليه قوله : ولهذا كان واجب الرد وصار كالمقبوض على سوم الشراء ، ويؤيده أن صاحب الكافي أخر حديث كون الإذن ضروريا عن تفريع هذين الفرعين ( قوله : ولنا أن اللفظ لا ينبئ عن التزام الضمان ; لأنه لتمليك المنافع بغير عوض أو لإباحتها ، والقبض لم يقع تعديا لكونه مأذونا فيه ) قال صاحب العناية : في حمل هذا المحل : يعني أن الضمان إما أن يجب بالعقد أو بالقبض أو بالإذن وليس شيء من ذلك بموجب له . أما العقد فلأن اللفظ الذي تنعقد به العارية لا ينبئ عن التزام الضمان ; لأنه لتمليك المنافع بغير عوض أو لإباحتها على اختلاف القولين ، وما وضع لتمليك المنافع لا يتعرض للعين حتى يوجب الضمان عند هلاكه .

وأما القبض فإنما يوجب الضمان إذا وقع تعديا وليس كذلك لكونه مأذونا فيه . وأما الإذن فلأن إضافة الضمان إليه فساد في الوضع ; لأن إذن المالك في قبض الشيء ينفي الضمان فكيف يضاف إليه . ا هـ كلامه . أقول : لا يذهب عليك أن احتمال كون الإذن موجبا للضمان مما لا يخطر ببال أحد أصلا ، ولهذا لم يتعرض المصنف لنفي ذلك قط في أثناء تقرير حجتنا في هذه المسألة ، [ ص: 9 ] فدرج الشارح المزبور إياه في احتمالات إيجاب الضمان ونسبته ذلك إلى المصنف بقوله يعني خروجا عن سنن الصواب ( قوله : والإذن وإن ثبت لأجل الانتفاع فهو ما قبضه إلا للانتفاع فلم يقع تعديا ) جواب عن قول الشافعي والإذن يثبت ضرورة الانتفاع فلا يظهر فيما وراءه . وتقريره القول بالموجب : يعني سلمنا أن الإذن لم يكن إلا لضرورة الانتفاع ، لكن القبض أيضا لم يكن إلا للانتفاع فلم يكن ثم تعد ولا ضمان بدونه ، كذا في العناية وغيرها . أقول : للخصم أن يقول إذا لم يكن القبض أيضا إلا لضرورة الانتفاع كانت صحة القبض مقدرة بقدر الضرورة ، والضرورة إنما هي في حالة الاستعمال ، فإن هلكت في هذه الحالة فلا ضمان قطعا .

وأما إذا هلكت في غيرها فينبغي أن يجب الضمان لكون هلاكها فيما وراء الضرورة . فالأظهر في الجواب عن قول الشافعي والإذن يثبت ضرورة الانتفاع فلا يظهر فيما وراءه طريقة المنع لا القول بالموجب ، وقد أفصح عنها صاحب غاية البيان حيث قال : والجواب عن قوله والإذن بقبض العين ثبت ضرورة الانتفاع . قلنا : لما مست الحاجة والضرورة إلى إظهار الإذن بالقبض في حالة الانتفاع مست الضرورة إلى إظهار الإذن بالقبض في غير حالة الانتفاع أيضا وهي حالة الإمساك ; لأن الإنسان إنما ينتفع بملك غيره كما ينتفع بملك نفسه ، ولا ينتفع بملك نفسه آناء الليل وأطراف النهار ، وإنما ينتفع بها ساعة ويمسك أخرى ، ولو انتفع بالعارية دائما يضمن كما إذا ركبها ليلا ونهارا فيما لا يكون العرف كذلك ، فثبت أن القبض في غير حالة الانتفاع أيضا مأذون فلا يوجب الضمان ، إلى هنا انتهى كلامه . وأشير إلى هذا الوجه من الجواب في الكافي ومعراج الدراية أيضا فتبصر .

التالي السابق


الخدمات العلمية