صفحة جزء
باب الأجر متى يستحق [ ص: 66 ] قال : ( الأجرة لا تجب بالعقد وتستحق بأحد معان ثلاثة : إما بشرط التعجيل ، أو بالتعجيل من غير شرط ، [ ص: 67 ] أو باستيفاء المعقود عليه ) وقال الشافعي : تملك بنفس العقد ; لأن المنافع المعدومة صارت موجودة حكما ضرورة تصحيح العقد فيثبت الحكم فيما يقابله من البدل . ولنا أن العقد ينعقد شيئا فشيئا على حسب حدوث المنافع على ما بينا ، والعقد معاوضة ، ومن قضيتها المساواة ، فمن ضرورة التراخي في جانب المنفعة التراخي [ ص: 68 ] في البدل الآخر . وإذا استوفى المنفعة يثبت الملك في الأجر لتحقق التسوية . وكذا إذا شرط التعجيل أو عجل ; لأن المساواة تثبت حقا له وقد أبطله .


( باب الأجر متى يستحق ) . قال صاحب النهاية : لما ذكر أن صحة الإجارة موقوفة على أن تكون الأجرة معلومة احتاج إلى بيان وقت وجوبها فذكره ، وما يتعلق به من المسائل في هذا الباب . ا هـ كلامه . واقتفى أثره في هذا التوجيه جماعة من الشراح . أقول : لا يخفى على ذي فطرة سليمة ركاكة هذا التوجيه وسخافته ، إذ لا يستدعي ذكر مجرد أن صحة الإجارة موقوفة على كون الأجرة معلومة بيان وجوبها فضلا عن الاحتياج إلى بيان وقت وجوبها في باب على حدة ، ألا يرى أن معلومية البدلين شرط في كثير من العقود ; ولم يحتج في شيء منها إلى بيان وقت الوجوب في باب على حدة . وقال صاحب العناية : لما كانت الإجارة تخالف غيرها في تخلف [ ص: 66 ] الملك عن العقد بلا خيار شرط وجب إفرادها بباب على حدة لبيان وقت التملك ، وما يتعلق به من المسائل . ا هـ كلامه .

أقول : فيه شيء وهو أن تخلف الملك عن العقد يوجد في غيرها أيضا كالهبة فإن الملك لا يثبت هناك أيضا بنفس العقد بل يتوقف على القبض كما مر ، وكالوصية فإن الملك هناك أيضا يتأخر إلى وقت الموت فلا يتم القول بأن الإجارة تخالف غيرها في تخلف الملك عن العقد بلا خيار شرط . ثم أقول : الأظهر أن يقال : لما كان وقت استحقاق الأجرة مما وقع فيه الاختلاف بين أئمة الشرع ، وكان يتعلق به كثير من المسائل حسن إفراد باب لبيان استحقاق الأجرة وما يتعلق به من المسائل ( قوله : الأجرة لا تجب بالعقد ) قال تاج الشريعة : أراد وجوب الأداء ، أما نفس الوجوب فيثبت بنفس العقد . وقال صاحب الكفاية : المراد نفس الوجوب لا وجوب الأداء ، وبيان ذلك إجمالا وتفصيلا . أما إجمالا فلأن الأجرة لو كانت عبدا فأعتقه المؤجر قبل وجود أحد معان ثلاثة لا يعتق ، فلو كان نفس الوجوب ثابتا لصح إعتاقه كما في البيع . وأما تفصيلا فلأنه معاوضة فتعتبر المساواة ولم توجد في جانب المعقود عليه لا نفس الوجوب ، ولا وجوب الأداء ، فكذا في جانب العوض انتهى .

وقال صاحب النهاية : الأجرة لا تجب بالعقد : أي لا يجب تسليمها وأداؤها بمجرد العقد ، كذا وجدت بخط شيخي . وذكر في الذخيرة ما يؤيد هذا فقال : يجب أن يعلم أن الأجرة لا تملك بنفس العقد ولا يجب إيفاؤها إلا بعد استيفاء المنفعة إذا لم يشترط التعجيل في الأجرة سواء كانت الأجرة عينا أو دينا ، هكذا ذكر محمد رحمه الله في الجامع ، وفي كتاب التحري . وذكر في الإجارات أن الأجرة إذا كانت عينا لا تملك بنفس العقد ، وإن كانت دينا تملك بنفس العقد وتكون بمنزلة الدين المؤجل ، فعامة المشايخ على أن الصحيح ما ذكره في الجامع وكتاب التحري .

وقال بعضهم : ما ذكره في الإجارات قول محمد أولا ، وما ذكره في الجامع ، والتحري قولا آخرا ، إلى هنا لفظ النهاية . أقول : تأييد ما ذكر في الذخيرة كون معنى عبارة الكتاب ما قاله صاحب النهاية ممنوع ، فإنه قال في الذخيرة : إن الأجرة لا تملك بنفس العقد قبل أن قال : ولا يجب إيفاؤها إلا بعد استيفاء المنفعة إذا لم يشترط التعجيل في الأجرة ، فعلم منه أن الأجرة لا تملك بنفس العقد عندنا كما لا يجب أداؤها بنفس العقد فتم ، بخلاف ما في الكتاب فإنه لم يذكر فيه شيء قبل أن قال الأجرة لا تجب في العقد ، فلو كان معناه الأجرة لا يجب تسليمها وأداؤها بمجرد العقد لم يفهم منه أن الأجرة لا تملك بمجرد العقد ، إذ لا يلزم من عدم وجوب الأداء بمجرد العقد عدم تملكها بمجرده : ألا ترى أن الثمن مما يملكه البائع بمجرد عقد البيع بلا [ ص: 67 ] خيار ولا يجب تسليمه وأداؤه في الحال بمجرد ذلك في البياعات المؤجلة بل يتأخر إلى حلول الأجل ، فإذا لم يفهم منه ذلك لم يفد ما هو المذهب عندنا فلزم أن لا يتم .

وقال صاحب العناية : قال صاحب النهاية : الأجرة لا تجب بالعقد معناه لا يجب تسليمها وأداؤها بمجرد العقد ، وليس بواضح ; لأن نفي وجوب التسليم لا يستلزم نفي التملك كالمبيع فإنه يملكه المشتري بمجرد العقد ولا يجب تسليمه ما لم يقبض الثمن .

والصواب أن يقال : معناه لا تملك ; لأن محمدا ذكر في الجامع أن الأجرة لا تملك وما لا يملك لم يجب إيفاؤه . وقال : فإن قلت : فإذا لم يستلزم نفي الوجوب نفي التملك كان أعم منه ، وذكر الأعم وإرادة الأخص ليس بمجاز شائع ; لعدم دلالة الأعم على الأخص أصلا .

قلت : أخرج الكلام مخرج الغالب ، وهو أن تكون الأجرة مما يثبت في الذمة ونفى الوجوب فيها وهو يستلزم نفي التملك لا محالة . انتهى كلامه .

أقول : لا السؤال بشيء ولا الجواب . أما الأول فلأن ذكر الأعم وإرادة الأخص إنما ليس بمجاز شائع إذا لم تتحقق قرينة مخصصة ، وأما إذا تحققت القرينة فذلك مجاز شائع وقوعه في كلمات القوم حتى تعريفاتهم التي يجب فيها التحرز عما يورث خفاء المراد ، وفيما نحن فيه قد تحققت القرينة على إرادة الأخص وهي قوله : وقال الشافعي تملك بنفس العقد كما اعترف به الشارح المزبور حيث قال فيما بعد : يدل على هذا كله قوله : وقال الشافعي تملك بنفس العقد وإلا لم يكن محل الخلاف متحدا .

وأما الثاني فلأنه إن أراد بقوله ونفى الوجوب فيها أنه قصد نفي الوجوب في الذمة بدون أن يجعله مجازا عن نفي التملك لم يكن مطابقا لقوله ، والصواب أن يقال : معناه لا تملك وإنما مورد السؤال ذلك ، وإن أراد به أنه جعل نفي الوجوب مجازا عن نفي التملك لعلاقة الاستلزام لم يحتج إلى قوله أخرج الكلام مخرج الغالب ، وهو أن تكون الأجرة مما يثبت بالذمة ; لأن الأجرة كلها سواء كانت عينا أو دينا مما يملك ، وإذا كان ما يثبت في الذمة منها هو الدين دون العين فنفي التملك بالعقد ينتظم في جميع أنواع الأجرة ، ولا يختص بما هو الغالب منها وهو الدين الثابت في الذمة حتى يحتاج إلى أن يقال : أخرج الكلام مخرج الغالب ، على أن قوله وهو يستلزم نفي التملك لا محالة ممنوع ، فإن العين مما لا يجب في الذمة مع أنه مما يملك قطعا . وقال بعضهم : فإن في صورة التعجيل يوجد الملك بلا وجوب فتأمل .

( قوله : وقال الشافعي : تملك بنفس العقد ; لأن المنافع المعدومة صارت موجودة حكما ضرورة تصحيح العقد فيثبت الحكم فيما يقابله من البدل ) قال صاحب العناية [ ص: 68 ] في حل هذا المحل : واستدل الشافعي بقوله ; لأن المنافع المعدومة صارت موجودة ضرورة تصحيح العقد ; ولهذا صحت الإجارة بأجرة مؤجلة ، ولو لم تجعل موجودة كان دينا بدين وهو حرام لا محالة ، وإذا كانت موجودة وجب ثبوت الملك بالعقد ; لوجود المقتضي وانتفاء المانع فيثبت الحكم فيما يقابله من البدل انتهى .

وأورد عليه بعض الفضلاء حيث قال قوله : لوجود المقتضي وانتفاء المانع ممنوع ، فإن انتفاء الوجود حقيقة مانع عنه انتهى . أقول : هذا الإيراد ساقط ; لأن المنافع المعدومة إذا جعلت موجودة في حكم الشرع يجب أن يترتب عليه ثبوت الملك بالعقد ولا يبقى لانتفاء الوجود حقيقة صلاحية للمنع عنه ; لأن الشرع إنما يجعلها موجودة ; لأجل أن يترتب عليه ذلك الحكم ، فلو كان انتفاء وجودها حقيقة مانعا عنه لزم أن يلغو جعل الشرع إياها موجودة وهذا خلف . وعن هذا قالوا : وللشارع ولاية جعل المعدوم حقيقة موجودا كما جعل النطفة في الرحم ولا حياة فيها كالحي حكما في حق الإرث ، والعتق ، والوصية على ما ذكر في الكافي وعامة الشروح .

نعم يرد على استدلال الشافعي كلام آخر من قبل أئمتنا كما أشير إليه في عامة المعتبرات ، وهو أن جعل المعدوم موجودا في الشرع إنما يكون فيما إذا دعت الضرورة إليه ، وفيما نحن فيه لا تدعو الضرورة إليه لإمكان تصحيح العقد بطريق آخر أوضح وأوسع منه وهو إقامة العين التي هي سبب لوجود المنفعة كالدار مثلا مقام المنفعة في حق صحة الإيجاب ، والقبول . ثم انعقاد العقد في حق المعقود عليه على حسب حدوث المنافع ، وإقامة السبب مقام المسبب أصل شائع في الشرع . كإقامة السفر مقام المشقة ، وإقامة البلوغ مقام كمال العقل وهلم جرا من النظائر .

ثم قال صاحب العناية : فإن قيل : الثابت بالضرورة لا يتعدى موضعها فلا يتعدى من صحة العقد إلى إفادة الملك . فالجواب أن الضروري إذا ثبت يستتبع لوازمه ، وإفادة الملك من لوازم الوجود عند العقد . انتهى . أقول : في الجواب بحث ; لأنه إذا أراد أن إفادة الملك في الحال من لوازم الوجود عند العقد فهو ممنوع ، كيف وقد تقرر فيما مر أن حكم العقد يجوز أن ينفصل عنه كالبيع بشرط الخيار فإن الملك فيه يتراخى إلى وقت سقوط الخيار مع وجود المبيع عند العقد ، وإن أراد أن إفادة الملك ولو بعد زمان من لوازم ذلك فهو مسلم ، لكن هذا لا يفيد مدعى الشافعي ، فإن مدعاه أن الأجرة تملك في الحال . والجواب المزبور إنما هو لتصحيح مدعاه فلا يتم التقريب . واعترض بعض الفضلاء على الجواب المسفور بوجه آخر حيث قال : إن أراد أن إفادة الملك من لوازم الوجود حقيقة فمسلم ولا يفيده ، وإن أراد أنها من لوازم الوجود ، ولو حكما فغير مسلم انتهى .

أقول ما ذكره في كل من شقي ترديده ليس بسديد . أما الأول فلأنه سلم كون إفادة الملك من لوازم الوجود حقيقة مع أن إفادة الملك في الحال كما هو مدعى الشافعي ليس من لوازم الوجود حقيقة ; ألا يرى أن المبيع يجب أن يكون موجودا حقيقة عند العقد مع أن البيع بشرط الخيار لا يفيد الملك في الحال كما مر . وأما الثاني فلأن الوجود الحكمي لا يكاد أن يخالف الوجود الحقيقي في اللوازم الشرعية وإلا لم تحصل فائدة في جعل الشرع الوجود الاعتباري في حكم الوجود الحقيقي ، فلما سلم أولا كون إفادة الملك من لوازم الوجود حقيقة لزمه تسليم كونها من لوازم الوجود حكما أيضا ، فالوجه الوجيه في الترديد وفي المنع ، والتسليم ما ذكرناه من قبل .

( قوله : وكذا إذا شرط التعجيل أو عجل ; لأن المساواة تثبت حقا له وقد أبطله ) قال في العناية : واعترض بأن شرط التعجيل فاسد ; لأنه يخالف مقتضى العقد ، وفيه نفع لأحد المتعاقدين وله مطالب فيفسد العقد . والجواب أنه يخالف مقتضى [ ص: 69 ] العقد من حيث كونه إجارة أو من حيث كونه معاوضة ، والأول مسلم ، وليس جواز اشتراط التعجيل باعتباره ، والثاني ممنوع ، فإن تعجيل البدل واشتراطه لا يخالفه من حيث المعاوضة انتهى . أقول : في الجواب نظر ، أما أولا فلأن حيثية كونه إجارة هي حيثية كونه معاوضة مخصوصة ، فما يخالف مقتضى العقد من إحدى هاتين الحيثيتين يخالف مقتضاه من الحيثية الأخرى فما معنى قوله : والأول مسلم ، والثاني ممنوع وهلا يستلزم تسليم الأول تسليم الثاني ومنع الثاني منع الأول . فإن قيل : مراده بحيثية كونه معاوضة حيثية كونه معاوضة ما مع قطع النظر عن خصوصيته فلا يلزم اتحاد الحيثيتين .

قلنا : فيلزم أن تكون صحة اشتراط التعجيل في عقد الإجارة باعتبار كونه معاوضة ما مع قطع النظر عن خصوصية كونه إجارة . ولا يخفى أن ذلك الاعتبار لا يخطر ببال أحد من المتعاقدين عند اشتراط التعجيل ، على أنهما لو صرحا بأنهما لو شرطا التعجيل في عقد الإجارة من حيث إنه إجارة لم يفسد العقد قطعا . وأما ثانيا فلأن قوله فإن تعجيل البدل واشتراطه لا يخالفه من حيث المعاوضة غير تام ، فإن من قضية المعاوضة المساواة ، وبشرط تعجيل الأجرة قبل ثبوت الملك في المعقود عليه تفوت المساواة كما لا يخفى . والأولى [ ص: 70 ] في الجواب ما ذكر في الكفاية وشرح تاج الشريعة وهو أن شرط التعجيل في الإجارة لا يخالفه مقتضى العقد ، فإن عقد الإجارة يقتضي التعجيل كالبيع ، إلا أنه سقط لمانع ، وهو وجوب المساواة وهو حق المستأجر ، فإذا أسقط حقه بالتعجيل زال المانع فصح . ثم قال صاحب العناية : وعورض دليلنا بأن الإبراء عن الأجرة ، والارتهان عنها ، والكفالة بها صحيحة بالاتفاق ، ولولا الملك لما صحت . وأجيب بأن صحة الإبراء على قول أبي حنيفة وأبي يوسف ممنوعة ، وجوزه محمد ; لأن العقد سبب في جانب الأجرة ، إذ اللفظ صالح لإثبات الحكم به ، وعدم الانعقاد في جانب المنفعة لضرورة العدم ولا ضرورة في الأجرة فظهر الانعقاد في حقه ، ويصح الإبراء لوجوده بعد السبب ، وكذلك الكفالة كالكفالة بما يذوب له على فلان وصحة الرهن ; لأن موجبه ثبوت يد الاستيفاء واستيفاء الأجر قبل استيفاء المنفعة صحيح بالتعجيل أو اشتراطه ، فكذا الرهن به . انتهى كلامه .

أقول : هذا كله مأخوذ من النهاية ، إلا أن التعليل المذكور لتجويز محمد رحمه الله الإبراء عن الأجرة ليس بسديد ; لأنه كما تحققت ضرورة في عدم الانعقاد في جانب المنفعة ، وهي كون المنافع معدومة كذلك تحققت ضرورة في عدم الانعقاد في جانب الأجرة أيضا ، وهي اقتضاء عقد المعاوضة المساواة . وعن هذا قال المصنف : والعقد معاوضة ، ومن قضيتها المساواة ، فمن ضرورة التراخي في جانب المنفعة التراخي في البدل الآخر ، فلا وجه لقوله ولا ضرورة في الأجرة فظهر الانعقاد في حقه ، على أن ذلك التعليل لا يتمشى أصلا فيما إذا كانت الأجرة منفعة أيضا من خلاف جنس المعقود عليه فإنه صحيح بالإجماع على ما صرح به في عامة المعتبرات ، مع أن كلا من البدلين معدوم هناك قطعا فلا فرق في الجانبين أصلا كما لا يخفى . وأورد بعض الفضلاء على قوله فظهر الانعقاد بوجه آخر حيث قال : إن أراد الانعقاد في حق الحكم فليس بمنعقد في حق الحكم بإجماع علمائنا ، وإن أراد غيره فليبين على أنه مخالف لما سبق في كتاب الإقرار من أن قوله أبرأتني إقرار بالمال المدعى ، فليتأمل . انتهى كلامه .

أقول : قد أخذ أصل إيراده من البدائع وإنه ساقط . أما بيان أخذه من البدائع فلأن صاحب البدائع ذكر لقول محمد في جواز الإبراء عن الأجرة وجهين . وأجاب عن الثاني بما ذكره القائل هاهنا حيث قال : وجه قول محمد إن الإبراء لا يصح إلا بالقبول ، فإذا قبل المستأجر فقد قصدا صحة تصرفهما ولا صحة إلا بالملك ، فيثبت الملك بمقتضى التصرف تصحيحا له كما في قول الرجل لغيره أعتق عبدك عني على ألف درهم فقال أعتقت ; ولأن الإبراء إسقاط ، وإسقاط الحق بعد سبب الوجوب جائز كالعفو عن القصاص بعد الجرح قبل الموت ، وسبب الوجوب هاهنا موجود وهو العقد المنعقد . والجواب أنه إن كان يعني بالانعقاد الانعقاد في حق الحكم فهو غير منعقد في حق الحكم بلا خلاف بين أصحابنا ، وإن كان يعني به شيئا آخر فهو غير معقول . إلى هنا لفظ البدائع . وأما بيان أنه ساقط فلأنه يجوز أن يراد بالانعقاد الانعقاد في حق المتعاقدين لا في حق الحكم كما أفصح عنه صاحب المحيط حيث قال : ومعنى جواز الإجارة على مذهبنا انعقاد العقد فيما بين المتعاقدين ، وهو الدرجة الأولى ، وانعقاده في حق الحكم وهو الدرجة الثانية .

وقال : ألا ترى أن البيع بشرط الخيار ينعقد فيما بين المتعاقدين ولا يفيد الحكم في الحال ، ثم فسر انعقاد العقد في حق المتعاقدين وانعقاده في حق الحكم بما لا مزيد عليه ، ومن يطلب ذلك فليراجع محله وهو أواخر الفصل الأول من إجارات المحيط البرهاني . وأما ما ذكره ذلك المورد في علاوته من حديث المخالفة لما سبق في كتاب الإقرار فليس بتام أيضا ، إذ لا مخالفة بين المقامين أصلا كما يظهر بالتأمل الصادق .

ثم أقول : لو ترك صاحب البدائع قيد المنعقد عند تقرير الوجه الثاني من وجهي قول محمد رحمه الله بقوله وسبب الوجوب هاهنا موجود وهو العقد المنعقد بأن اكتفى بقوله وهو العقد لما تمشى الجواب الذي ذكره بترديد المراد بالانعقاد أصلا ، وكفى في إثبات قول محمد رحمه الله : وكذا لو لم يتعرض صاحب النهاية ، والعناية لحديث الانعقاد في جانب الأجرة دون المنفعة بأن اكتفيا بأن يقال : إن الإبراء وقع بعد وجود سبب الوجوب ، وهو العقد فصح كالعفو عن القصاص بعد الجرح ، كما اكتفى به في بعض الشروح لما ورد عليه ما ذكرناه من [ ص: 71 ] تحقق الضرورة في جانب الأجرة أيضا ، وكفى في إثبات قول محمد وذلك ; لأن العقد نفسه وهو الإيجاب ، والقبول الصادران من المتعاقدين مضافين إلى محل المنفعة ، وهو الدار مثلا مربوطا أحدهما بالآخر كاف في السببية ، ولا حاجة إلى اعتبار انعقاده في مرتبة السببية ، فإن الانعقاد حكم الشرع يثبت وصفا له شرعا ، والعلل الشرعية مغايرة للعلل العقلية في جواز انفكاكها عن معلولاتها ، فجاز أن يقال : العقد وجد ، والانعقاد تراخى إلى وجود المنافع ساعة فساعة ، وهذا هو رأي بعض مشايخنا في تفسير قول أئمتنا إن عقد الإجارة ينعقد ساعة فساعة على حسب حدوث المنافع كما ذكر صاحب الغاية في صدر هذا الكتاب ونقلناه عنه هناك .

نعم يجوز أن يعتبر العقد انعقادا قبل حدوث المنافع بمعنى الانعقاد في حق المتعاقدين دون الانعقاد في حق الحكم كما ذكره صاحب المحيط ونقلناه عنه فيما مر آنفا ، لكن الأسلم في توجيه قول محمد هاهنا هو الطريقة الأخرى تأمل ترشد .

التالي السابق


الخدمات العلمية