صفحة جزء
قال : ( ويجوز بطعامها وكسوتها استحسانا عند أبي حنيفة رحمه الله ، وقالا : لا يجوز ) ; لأن الأجرة مجهولة فصار كما إذا استأجرها للخبز والطبخ . له أن الجهالة لا تفضي إلى المنازعة ; لأن في العادة التوسعة على الأظآر شفقة على الأولاد فصار كبيع قفيز من صبرة ، بخلاف الخبز والطبخ ; لأن الجهالة فيه تفضي إلى المنازعة ( وفي الجامع الصغير : فإن سمى الطعام دراهم ووصف جنس الكسوة وأجلها وذرعها فهو جائز ) يعني بالإجماع [ ص: 105 ] ومعنى تسمية الطعام دراهم أن يجعل الأجرة دراهم ثم يدفع الطعام مكانه ، وهذا لا جهالة فيه ( ولو سمى الطعام وبين قدره جاز أيضا ) لما قلنا ، [ ص: 106 ] ولا يشترط تأجيله ; لأن أوصافها أثمان . ( ويشترط بيان مكان الإيفاء ) عند أبي حنيفة خلافا لهما ، وقد ذكرناه في البيوع ( وفي الكسوة يشترط بيان الأجل أيضا مع بيان القدر والجنس ) ; لأنه إنما يصير دينا في الذمة إذا صار مبيعا ، وإنما يصير مبيعا عند الأجل كما في السلم .


( قوله : ومعنى تسمية الطعام دراهم أن يجعل الأجرة دراهم ثم يدفع الطعام مكانه ) قال صاحب النهاية : وهذا التفسير الذي ذكره لا يستفاد من ذلك اللفظ ، ولكن يحتمل أن يكون معناه : أي سمى الدراهم المقدرة بمقابلة طعامها ثم أعطى الطعام بإزاء الدراهم المسماة انتهى . أقول : ليت شعري كيف يستفاد هذا المعنى من ذلك اللفظ حتى يصح طعنه في المعنى الذي ذكره المصنف بأنه لا يستفاد من ذلك اللفظ وقبوله هذا المعنى ، فإن هذا المعنى إن لم يكن أكثر بعدا من ذلك اللفظ من المعنى الذي ذكره المصنف فلا أقل من المساواة ; لأنه إذا صير إلى حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه في ذلك اللفظ : أي لفظ الجامع الصغير بأن كان تقديره إن سمى بدل الطعام دراهم كما حمله عليه الإمام الزيلعي جاز أن يفهم منه أول المعنى الذي ذكره المصنف ، وهو قوله : أن يجعل الأجرة دراهم ، ولكن لا يفهم منه أصلا آخره ، وهو قوله : ثم يدفع الطعام مكانه كما نبه عليه الإمام الزيلعي حيث قال : لكن لا يفهم منه أنه أعطى بدل الدراهم طعاما ، وإنما يفهم منه أنه سمى بدل الطعام دراهم لا غير . انتهى .

وأما المعنى الذي ذكره صاحب النهاية فله اشتراك في الآخر مع المعنى الذي ذكره المصنف ، وفي أوله تفصيل زائد على ما في أول المعنى الذي ذكره المصنف ، فإن فهم ذلك التفصيل من المضاف المقدر في لفظ الجامع الصغير كان المعنيان متساويين في انفهام البعض الأول منهما من ذلك اللفظ وعدم انفهام البعض الآخر منهما منه ، وإلا كان المعنى الذي ذكره صاحب النهاية أكثر بعدا من ذلك اللفظ من المعنى الذي ذكره المصنف ، فلا وجه لرد الثالث وقبول الأول .

وقال صاحب العناية بعد أن نقل ما قال صاحب النهاية : وهو حق ، ولكن لو قدر في كلام المصنف لفظة بدلا بأن يقال أن يجعل الأجرة دراهم بدلا آل إلى ذلك . انتهى . أقول : لا يخفى على من له دربة بأساليب الكلام أن تقدير بدلا بعد أن أخذت كلمة أن يجعل مفعوليها ركيك من حيث الإعراب ، والمعنى : فعليك بالتأمل الصادق مع ملاحظة قوله ثم يدفع الطعام مكانه . وذكر بعض الفضلاء توجيهين آخرين للفظ الجامع الصغير حيث قال : يجوز أن يكون الطعام منصوبا على نزع الخافض : أي للطعام ، أو المراد بالتسمية هو التعيين : أي عين الطعام بدراهم وتعديته إلى دراهم بنفسه باعتبار معناه الأصلي تأمل . انتهى كلامه . أقول : كلا التوجيهين مجروح . أما الأول فلأنه قد تقرر في علم النحو أن حذف حرف الجر مع غير أن وأن إنما يجوز فيما يسمع نحو استغفرت الله ذنبا : أي من ذنب وبغاه الخير : أي بغى له ، وأما فيما لا يسمع فلا يجوز ، ولهذا لم يجز حذف الجار من إياك من الأسد إذ لم يسمع ، وعن هذا قال ابن الحاجب : ولا تقل إياك الأسد لامتناع تقدير من . انتهى .

وفيما نحن فيه أيضا لم يسمع فلا يجوز نزع الخافض : أي حذف حرف الجر ولهذا لم يتعرض المصنف وغيره من الثقات [ ص: 106 ] لهذا التوجيه مع ظهوره جدا . وأما الثاني فلأنه إذا كان المراد بالتسمية هو التعيين لا يصح تعديته إلى دراهم بنفسه باعتبار معناه الأصلي ، وإلا يلزم الجمع بين معنى التسمية ، وهو لا يجوز سواء كان اللفظ حقيقة في كل واحد من المعنيين أو حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر ، إذ لا يجوز عموم المشترك ، ولا الجمع بين الحقيقة والمجاز عندنا على ما عرف في علم الأصول . ( قوله : ولا يشترط تأجيله ; لأن أوصافها أثمان ) قال كثير من ثقات الشراح في شرح قوله أوصافها : أي أوصاف الطعام على تأويل الحنطة . ا هـ .

أقول : فيه نظر ، إذ لا شك أن المراد بالطعام في مسألتنا هذه ما يعم الحنطة وغيرها ، فكيف يتم تأويل ذلك بالخاص في مقام الاستدلال على العام . والحق عندي أن مرجع الضمير هو الطعام بتأويل كونه أجرة في مسألتنا هذه ، فالمعنى أن هذه الأجرة أوصافها أوصاف أثمان فلا يشترط تأجيلها ، بخلاف الكسوة كما سنذكر . والعجب أن صاحب العناية بعد أن قال في تفسير قول المصنف ولا يشترط تأجيله : أي تأجيله الطعام المسمى أجرة سلك في تأويل تأنيث ضمير أوصافها مسلك سائر الشراح من التأويل بالحنطة وقد عرفت .

التالي السابق


الخدمات العلمية