صفحة جزء
[ ص: 137 ] باب إجارة العبد قال : ( ومن استأجر عبدا للخدمة فليس له أن يسافر به إلا أن يشترط ذلك ) ; لأن خدمة السفر اشتملت على زيادة مشقة فلا ينتظمها الإطلاق ، [ ص: 138 ] ولهذا جعل السفر عذرا [ ص: 139 ] فلا بد من اشتراطه كإسكان الحداد والقصار في الدار ، ولأن التفاوت بين الخدمتين ظاهر ، فإذا تعين الخدمة في الحضر لا يبقى غيره داخلا كما في الركوب


( باب إجارة العبد ) . قال صاحب النهاية : لما فرغ من بيان أحكام تتعلق بالحر شرع في بيان أحكام تتعلق بالعبد ، إذ العبد منحط الدرجة عن الحر فانحط ذكره عن ذكر الحر لذلك انتهى . واقتفى أثره كثير من الشراح في ذكر هذا الوجه . وقال صاحب غاية البيان : لما كانت إجارة الرقيق نوعا من أنواع الإجارة وبالرقيق مسائل خاصة تتعلق به ذكرها في باب على حدة ، وأخر ذكرها ; لأن الجنس مقدم على النوع ، وقال هذا ما لاح لي من وجه المناسبة ، وما قيل في بعض الشروح إن العبد منحط الدرجة عن الحر فانحط ذكره عن ذكر الحر لذلك ففيه نظر ; لأن صاحب الهداية ذكر قبل هذا استئجار الدور والحوانيت والحمام والدواب ، وذكر هنا استئجار الرقيق لاختصاصه بالمسائل المذكورة في هذا الباب ، وترجم الباب بباب إجارة العبد كما ترجم في الأصل بباب إجارة الرقيق للخدمة وغيرها ، وظاهر كلام هذا الشارح يفهم منه أن العبد منحط الدرجة عن الحر ; لأنه لا ولاية له أصلا فلا يصح تصرفه في شيء إلا بإذن المولى ، وهذا مسلم ، ولكن لو كان مراد المصنف هذا لم يبدأ أول الباب باستئجار العبد ; لأنه لم يوجد منه تصرف أصلا في عقد الإجارة لا أصالة ولا نيابة ، بل هو محل التصرف ، وموقع عقد الإجارة كالدابة ونحو ذلك ، فعلم بهذا أن غرض المصنف لم يكن إلا تنويع المسائل ، إلى هنا كلامه .

أقول : في الوجه الذي لاح له نظر ; لأن مجرد كون [ ص: 137 ] الجنس مقدما على النوع لا يقتضي تأخير مسائل هذا الباب إلى هنا ، فإن مسائل كثيرة من الأبواب السابقة مختصة أيضا بالنوع لا عامة للجنس ، ألا يرى أن مسائل باب الإجارة الفاسدة مختصة بالنوع الفاسد من جنس الإجارة ، وكذا مسائل باب الإجارة على أحد الشرطين مختصة بالنوع الذي ذكر فيه الشرطان إلى غير ذلك من المسائل الأخرى المتقدمة . وإنما يقتضي هذا الوجه تأخير مسائل هذا الباب عما ذكر في أوائل كتاب الإجارة من الأحكام العامة لجنس الإجارة دون غيرها من الأحكام الكثيرة المتنوعة الواقعة في البين فلا يتم التقريب .

وأما ما أورده على الوجه الذي ذكره صاحب النهاية ، ومن يحذو حذوه من النظر فقد قصد بعض الفضلاء دفعه حيث قال في تفسير إجارة العبد : أي نفسه وقال : وإجارة الغير إياه ذكرت استطرادا ، وقد يقدم في الذكر ما يذكر استطرادا كما سبق في باب العشر والخراج ، فعلى هذا الإجارة مضاف إلى الفاعل ، إلى هنا كلامه . أقول : فيه خلل . أما أولا فلأن الإجارة في اللغة اسم للأجرة ، وهي كراء الأجير ، صرح به في المغرب وعامة كتب اللغة ، ولم يسمع مجيء هذه الكلمة مصدرا قط ، وإنما المصدر من الثلاثي الأجر ، ومن المزيد عليه الإيجار والمؤاجرة ، فلم يتصور أن يكون للإجارة فاعل ، ومفعول ، فلم يصح القول بأن الإجارة هاهنا مضاف إلى الفاعل ، وأن المعنى إجارة العبد نفسه . وأما ثانيا فلأن المذكور في هذا الباب خمس مسائل : ثنتان منها متعلقتان بإيجار العبد نفسه ، وثلاث منها متعلقات بإيجار الغير إياه ، فحمل عنوان الباب على أقل ما ذكر في الباب ، وجعل أكثر ما ذكر فيه استطراديا كما يقتضيه قوله : وإجارة الغير إياه ذكرت استطرادا مما لا تقبله فطرة سليمة .

ثم أقول : في دفع ما أورده صاحب العناية من النظر إن انحطاط درجة العبد عن الحر كما يظهر له أثر فيما إذا وجد من العبد تصرف في عقد الإجارة ، كذلك يظهر له أثر فيما إذا لم يوجد منه تصرف في ذلك ، ولكن كان هو محل التصرف ، وموقع عقد الإجارة ، إذ لا شك أن في كل من تينك الصورتين حكما خاصا يتعلق بالعبد كما يفصح عنه قوله : في الوجه الذي اختاره ، وبالرقيق مسائل خاصة تتعلق به ذكرها في باب على حدة . ولا ريب أن اختصاص مثل ذلك الحكم بالعبد ليس لارتفاع درجته عن الحر بل إنما هو لانحطاط درجته عن الحر ; فكان قول صاحب النهاية ، ومن تبعه : أخر الأحكام التي تتعلق بالعبد عن أحكام الحر ; لانحطاط درجة العبد عن الحر وجها جاريا في الصورتين معا شاملا للمسائل المذكورة في هذا الباب بأسرها فلم يتم قول صاحب الغاية ، ولكن لو كان مراد المصنف هذا لم يبدأ أول الباب باستئجار العبد إلخ ، إذ مداره على أن لا يجري الوجه المزبور في الصورة الثانية كما ينادي عليه تعليله . ثم إن إضافة الإجارة إلى العبد في عنوان الباب ليس من قبيل الإضافة إلى الفاعل ولا من قبيل الإضافة إلى المفعول لما عرفت ، بل من قبيل الإضافة لأدنى الملابسة فتشمل ما كان العبد متصرفا في نفس عقد الإجارة كما في بعض مسائل هذا الباب .

وما كان العبد محل التصرف ، وموقع عقد الإجارة كما في البعض الآخر من مسائل هذا الباب . ومن هذا البعض المسألة المبتدأ بها أول الباب فلا محذور ولا استطراد في شيء تأمل ترشد ( قوله : ومن استأجر عبدا للخدمة فليس له أن يسافر به إلا أن يشترط ذلك ; لأن خدمة السفر اشتملت على زيادة مشقة فلا ينتظمها الإطلاق ) فإن قيل : إن المستأجر في ملك منافعه ينزل منزلة المولى في منافع عبده وللمولى أن يسافر بعبده فلماذا لا يكون [ ص: 138 ] للمستأجر أن يسافر بأجيره ؟ قلنا : إنما يسافر المولى بعبده ; لأنه يملك رقبته ، والمستأجر لا يملك رقبة أجيره ، كذا في الكافي وعامة الشروح . ونقض هذا الجواب بمن ادعى دارا وصالحه المدعى عليه على خدمة عبده سنة فإن للمدعي أن يخرج بالعبد إلى السفر ، وإن لم يملك رقبته .

وأجيب بأن مؤنة الرد في باب الإجارة على الآجر بعد انتهاء العقد ; لأن المنفعة في النقل كانت له من حيث إنه يقرر حقه في الأجر ، فالمستأجر إذا سافر بالعبد فهو يلزم المؤجر ما لم يلزمه من مؤنة الرد ، وربما تربو على الأجرة . وأما في الصلح فمؤنة الرد ليست على المدعى عليه ، فالمدعي بالإخراج إلى السفر يلتزم مؤنة الرد وله ذلك ، كذا في العناية أخذا من النهاية . أقول : لقائل أن يقول : يلزم من هذا الجواب أن يقدر المستأجر أن يسافر بالعبد إذا التزم مؤنة الرد ، وإن لم يرض به المؤجر ; لأن حاصل هذا الجواب أنه إن سافر المستأجر بالعبد في باب الإجارة يترتب الضرر على المؤجر بإلزامه إياه ما لم يلزمه من مؤنة الرد .

ولا يخفى أن ذلك الضرر يندفع بالتزام المستأجر تلك المؤنة مع أن الظاهر من عبارات الكتب عدم جواز المسافرة به مطلقا ما لم يشترط ذلك فتأمل . وطعن صاحب العناية في الجواب المزبور بوجه آخر حيث قال : وهذا كما ترى انقطاع ; لأن المعلل احتاج إلى أن يضم إلى علته ، وهي قوله : والمستأجر لا يملك رقبته قيدا ، وهو أن يقول ويلزمه مؤنة الرد . ثم قال : ولعل الصواب أن يقال : لا نسلم أن المستأجر في منافع العبد كالمولى فإن المولى له المنفعة على الإطلاق زمانا ، ومكانا ونوعا ، وليس المستأجر كذلك بل يملكها بعقد ضروري يتقيد بمكان وزمان ، فيجوز أن يتقيد بما لا يتقيد به المولى والعرف يوجبه ، أو دفع ضرر المؤنة على ما ذكرنا يوجبه . انتهى كلامه .

أقول : فيما استصوبه نظر ; لأنه ينتقض بمسألة الصلح ، إذ لا شك أن المصالح أيضا لا يملك منافع العبد على الإطلاق كالمولى ، بل هو أيضا إنما يملكها بعقد ضروري هو عقد [ ص: 139 ] الصلح مع أن له أن يسافر بالعبد ، بخلاف المستأجر فيحتاج إلى الفرق ( قوله : ولأن التفاوت بين الخدمتين ظاهر ، فإذا تعين الخدمة في الحضر لا يبقى غيره داخلا كما في الركوب ) قال بعض الفضلاء : الفرق بين الدليلين غير واضح ظاهرا انتهى . أقول : الفرق بينهما أن مدار الأول على أن خدمة السفر مما لا يدخل في إطلاق العقد رأسا بناء على انصراف مطلق العقد إلى المتعارف الذي هو الخدمة في الحضر ، ومدار الثاني على أن كل واحدة من خدمتي السفر والحضر ، وإن كانتا داخلتين تحت إطلاق العقد إلا أن الخدمة في الحضر تعينت بقرينة حال حضر العاقد ، ومكان العقد ، فبعد تعينها لا يبقى المحال للأخرى كما في الركوب ، فإنه إذا أطلق الركوب ثم ركب بنفسه أو أركب غيره يتعين هو فبعد ذلك ليس له أن يغير من ركبه أولا لتعينه للركوب فكذا هاهنا ، ويرشد إلى ما قررنا من الفرق بين الدليلين المذكورين في الكتاب عبارة المبسوط والذخيرة في تعليل هذه المسألة على ما ذكره صاحب النهاية حيث قال : لأن مطلق العقد ينصرف إلى التعارف ; ولأن الظاهر من حال صاحب العبد أنه يريد الاستخدام في مكان العقد حتى لا تلزمه مؤنة الرد ، وربما يربو ذلك على الآجر فيتعين موضع العقد مكانا للاستيفاء بدلالة الحال ، كذا في المبسوط والذخيرة انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية