صفحة جزء
قال ( والصبي والمجنون لا تصح عقودهما ولا إقرارهما ) لما بينا ( ولا يقع طلاقهما ولا عتاقهما ) لقوله عليه الصلاة والسلام { كل طلاق واقع إلا طلاق الصبي والمعتوه } والإعتاق يتمحض مضرة ، ولا وقوف للصبي على المصلحة في الطلاق بحال لعدم الشهوة ، ولا وقوف للولي على عدم التوافق على اعتبار بلوغه حد الشهوة ، فلهذا [ ص: 258 ] لا يتوقفان على إجازته ولا ينفذان بمباشرته ، بخلاف سائر العقود . قال ( وإن أتلفا شيئا لزمهما ضمانه ) إحياء لحق المتلف عليه ، وهذا لأن كون الإتلاف موجبا لا يتوقف على القصد كالذي يتلف بانقلاب النائم عليه والحائط المائل بعد الإشهاد ، بخلاف القول على ما بيناه .


( قوله والصبي والمجنون لا تصح عقودهما ولا إقرارهما إلخ ) أراد بعدم الصحة عدم النفاذ لما تقدم في قوله ومن باع من هؤلاء شيئا فالولي بالخيار ، وإنما أعاد المسألة تفريعا على الأصل المذكور ، وهو أن هذه المعاني الثلاثة توجب الحجر عن الأقوال لتنساق القوليات في موضع واحد ، كذا في العناية والنهاية .

قال بعض الفضلاء وإذا أريد بالصبي والمجنون الصبي الغير العاقل والمجنون المغلوب لا يحتاج إلى تأويل عدم الصحة بعدم النفاذ ، ويخلص كلام المصنف عن وصمة التكرار انتهى .

وقد أخذ هذا المعنى من آخر كلام صاحب غاية البيان هاهنا ، فإنه قال : أراد بقوله لا يصح لا ينفذ لأن بيعهما وسائر تصرفاتهما الذي يتردد بين النفع والضر موقوف على إجازة الولي ، ألا يرى إلى ما قال قبل هذا بقوله ومن باع من هؤلاء شيئا وهو يعقل البيع ويقصده فالولي بالخيار ، إن شاء أجازه ، إلا إذا أريد بقوله والصبي من لا يعقل أصلا وبقوله والمجنون الذي لا يفيق أصلا فحينئذ يجري قوله ولا يصح على ظاهره انتهى كلامه .

أقول : لا مساغ لذلك الاحتمال لأن حمل الصبي والمجنون في قوله والصبي والمجنون لا تصح عقودهما على الصبي الغير العاقل والمجنون المغلوب فقط مما لا تساعده القاعدة ، فإن المعرف فاللام التعريف إذا لم يكن هناك معهود إنما يحمل على الجنس في قاعدة أهل العربية ، وعلى الاستغراق في قاعدة أهل الأصول كما تقرر كله في موضعه ، فهاهنا الصبي الغير العاقل والمجنون المغلوب لم يعهدا بخصوصهما قطعا ، فلا بد أن يراد بالصبي والمجنون المذكورين هاهنا جنسهما أو جميع أفرادهما على إحدى القاعدتين لا حصة مخصوصة منهما كما توهم .

ولئن سلم مساعدة القاعدة لذلك ، فلو أريد بهما هاهنا ذلك القسم المعين منهما لزم أن لا تكون أحكام عقود الصبي العاقل والمجنون الغير المغلوب الذي هو المعتوه ولا أحكام إقرارهما وطلاقهما وعتاقهما مذكورة في كتاب الحجر أصلا ، إذ موضع ذكر تلك الأحكام هنا ولم تذكر في موضع آخر من هذا الكتاب ، فيلزم أن تكون متروكة سدى ولا يخفى فساده .

ولا يختلجن في وهمك أنها تفهم مما ذكر دلالة ، لأن سبب الحجر في الصبي الغير العاقل والمجنون المغلوب أقوى من سببه في غيرهما فلا يدل عدم صحة تصرف في حقهما على عدم صحته في حق غيرهما كما لا يخفى ( قوله والإعتاق يتمحض مضرة ، ولا وقوف للصبي على المصلحة في الطلاق بحال لعدم الشهوة ، ولا وقوف للولي على عدم التوافق على اعتبار بلوغه حد الشهوة ) قال صاحب العناية في شرح هذا المقام : والإعتاق يتمحض مضرة لا محالة ، والطلاق وإن أمكن أن يتردد بين النفع والضر باعتبار موافقة الأخلاق بعد [ ص: 258 ] البلوغ ، لكن الصبي لا وقوف له على المصلحة في الطلاق بحال .

أما في الحال فلعدم الشهوة ، وأما في المآل فلأن علم المصلحة فيه يتوقف على العلم بتباين الأخلاق وتنافر الطباع عند بلوغه حد الشهوة ولا علم له بذلك ، والولي وإن أمكن أن يقف على مصلحته في الحال لكن لا وقوف له على عدم التوافق على اعتبار بلوغه حد الشهوة انتهى كلامه .

أقول : فيه بحث . أما أولا فلأن جعله الطلاق مما يتردد بين النفع والضر مخالف لما صرح به نفسه وسائر الشراح فيما مر من أنه مما يتمحض ضررا . اللهم إلا أن يحمل كلامه هاهنا على التنزل والتسليم فتأمل .

وأما ثانيا فلأنه إن أراد بالمصلحة في قوله والولي وإن أمكن أن يقف على مصلحته في الحال مصلحة الصبي في الطلاق كما هو الملائم لما نحن فيه وهو المطابق لقوله من قبل لكن الصبي لا وقوف له على المصلحة في الطلاق يلزم أن لا يتم قوله وإن أمكن أن يقف على مصلحته في الحال ، لأن علة عدم الوقوف على مصلحته في الطلاق في الحال عدم شهوته في الحال ، كما أفصح عنه المصنف والشارح المزبور في تعليل عدم وقوف الصبي على تلك المصلحة ، فعند تقرر هاتيك العلة كيف يمكن للولي أن يقف على تلك المصلحة ، وإن أراد بالمصلحة المذكورة مصلحته في غير الطلاق يكون ذكرها لغوا في إثبات ما نحن فيه كما لا يخفى .

التالي السابق


الخدمات العلمية