صفحة جزء
قال ( ومن غصب ساجة فبنى عليها زال ملك مالكها عنها ولزم الغاصب قيمتها ) وقال الشافعي : للمالك أخذها ، والوجه من الجانبين قدمناه . [ ص: 338 ] ووجه آخر لنا فيه أن فيما ذهب إليه إضرارا بالغاصب بنقض بنائه الحاصل من غير خلف ، وضرر المالك فيما ذهبنا إليه مجبور بالقيمة ، فصار كما إذا خاط بالخيط المغصوب بطن جاريته أو عبده أو أدخل اللوح المغصوب في سفينته . ثم قال الكرخي والفقيه أبو جعفر : إنما لا ينقض إذا بنى في حوالي الساجة ، [ ص: 339 ] ما إذا بنى على نفس الساجة ينقض ; لأنه متعد فيه . وجواب الكتاب يرد ذلك وهو الأصح . .


( قوله ومن غصب ساجة فبنى عليها زال ملك مالكها عنها ولزم الغاصب قيمتها ) ذكر في الذخيرة أن ذلك فيما إذا كانت قيمة البناء أكثر من قيمة الساجة . وأما إذا كانت قيمة الساجة أكثر من البناء فلم يزل [ ص: 338 ] ملك مالكها ا هـ . قال صاحب العناية بعد نقل ما في الذخيرة : وسيظهر لك وجه ذلك إن تأملت في قوله وجه آخر لنا فيه ا هـ .

أقول : لا يذهب على من له ذوق صحيح أنه لا يظهر وجه ذلك بالتأمل في قوله وجه آخر لنا فيه ; لأن حاصله أن ضرر الغاصب فيما ذهب إليه الشافعي ضرر من غير خلف ، وضرر المالك فيما ذهبنا إليه ضرر مجبور بالقيمة ، ولا ريب أن الضرر المجبور دون الضرر المحض فلا يرتكب الضرر الأعلى عند إمكان العمل بالضرر الأدنى . ولا يخفى على ذي فطرة سليمة أنه لا فرق في هذا المعنى بين أن يكون قيمة البناء أكثر من قيمة الساجة وبين العكس ، إذ لا شك أن الضرر المحض أشد وأثقل من الضرر المجبور على كل حال ، فلا بد أن يتحمل الثاني لدفع الأول على كل حال عملا باختيار أهون الشرين كما هو القاعدة المقررة ، وإنما كان يظهر وجه ذلك لو كان كلا الضررين مجبورين بالقيمة ، فإنما هو أقل قيمة حينئذ يكون أخف وأيسر تحملا وليس فليس .

ثم أقول : لعل وجه ذلك يظهر بالتأمل في قوله والوجه من الجانبين قدمناه ، فإن ما قدمه من جانبنا هو قوله ولنا أنه أحدث صنعة متقومة صير حق المالك هالكا ، ولا شك أن قيمة البناء إذا كانت أكثر من قيمة الساجة كان البناء غالبا على الساجة فيصح إذ ذاك أن يقال : إن الغاصب أحدث صنعة متقومة صير إحداثها حق المالك هالكا من وجه لظهور صحة تصيير الغالب المغلوب هالكا من وجه ، وأما إذا كانت قيمة الساجة أكثر من قيمة البناء فإنما تكون الساجة غالبة على البناء فيشكل هناك أن يقال : إنه أحدث صنعة متقومة صير حق المالك هالكا من وجه ، إذ تصيير المغلوب الغالب هالكا غير ظاهر تأمل تفهم ( قوله ووجه آخر لنا فيه أن فيما ذهب إليه إضرارا بالغاصب بنقض بنائه الحاصل من غير خلف وضرر المالك فيما ذهبنا إليه مجبور بالقيمة ) بيانه أن فيما قاله الشافعي رضي الله عنها إضرارا بالغاصب ; لأن فيه إبطال حقه ، وفيما قلنا إضرار بالمالك ، ولكن ضرر المالك مجبور بالعوض وهو القيمة ، فكان فوات حقه كلا فوات ، وضرر الغاصب ليس بمجبور بشيء فيفوت حقه لا إلى خلف ، فكان قطع حق المالك أولى من قطع حق الغاصب ، كذا في غاية البيان .

أقول : لقائل أن يقول : يشكل هذا الوجه من التعليل بما إذا غصب ساحة بالحاء المهملة فبنى عليها ، فإنه لا يزول ملك المالك عنها كما سيأتي في الكتاب مع جريان الوجه المذكور بعينه هناك أيضا كما لا يخفى . نعم يوجد هناك وجه آخر فارق بينهما ، لكن الكلام في انتقاض هذا الوجه المذكور في مسألتنا هذه بتلك المسألة الآتية فتأمل ( قوله كما إذا خاط بالخيط المغصوب بطن جاريته أو عبده أو أدخل اللوح المغصوب في سفينته ) قال في العناية : فإن قيل : عدم جواز نزع الخيط واللوح عنده من حيث إن فيه تلف الناس لا ; لأن المالك [ ص: 339 ] ملك ذلك بما صنع فلا يصلح للاستشهاد لاختلاف المناط . قلنا : ثبت في كل واحدة منهما حق المالك وغيره ، وجعل حق غيره أولى ; لأن بإبطاله زيادة ضرر بالنسبة إلى ضرر المالك فكانتا متساويتين ا هـ . ورد عليه بعض الفضلاء بأن قال : كيف يقاس ذلك ، ولو كان البناء والساجة كلاهما لشخص واحد يباح له نقض بنائه وإخراج الساجة من تحته ، بخلاف اللوح والسفينة والخيط والجارية فإنها لو كانت لمالك واحد لا يباح له نزع الخيط واللوح فليتأمل ا هـ . أقول : ليس ذلك بشيء إذ لا يجب في صحة القياس اشتراك المقيس والمقيس عليه في جميع الأحوال ، بل يكفي اشتراكهما في العلة التي هي مناط الحكم وهاهنا كذلك فإن العلة في المقيس عليه لحوق زيادة ضرر بغير المالك على تقدير إبطال حقه وهو متحقق في المقيس أيضا بلا ريب ، على أنه لو كان البناء والساجة كلاهما لشخص واحد صار بمعزل عما نحن فيه ، إذ لا يتحقق الغصب هناك ، ولا يكون صاحب البناء متصرفا في ملك الغير حينئذ فلا يكون داخلا فيما وقع مقيسا هاهنا ، ولا تتحقق فيه العلة المعتبرة في المقيس عليه وهي لحوق زيادة ضرر بغير المالك على تقدير إبطال حقه ، فلم يكن له تعلق بما نحن فيه ولا بالقياس المذكور فيه أصلا .

( قوله وجواب الكتاب يرد ذلك ) قال صاحب غاية البيان : ولنا في قوله وجواب الكتاب يرد ذلك : أي جواب مختصر القدوري يرد ما قاله الكرخي نظر ; لأن القدوري يروي عن أبي عبد الله الجرجاني عن أبي بكر الرازي عن أبي الحسن الكرخي ، فكيف يرد مجرد جواب القدوري قول الكرخي وسند روايته إليه . نعم يجوز رجحان قول المتأخر على المتقدم بإقامة الدليل ، أما بمجرد الرواية فلا ا هـ كلامه .

أقول : نظره ساقط ; لأنه إن أراد أن استناد رواية القدوري في جميع مسائل مختصره أو في المسألة التي نحن بصددها إلى الكرخي فهو ممنوع ، كيف وقد صرح هذا الشارح نفسه بأن القدوري قال في شرحه لمختصر الكرخي : وكان أبو الحسن الكرخي يقول : المسألة موضوعة على أنه بنى على حوالي الساجة ; لأنه غير متعد في البناء على ملكه فلا ينقض .

وأما إذا بنى على نفس الساجة ينقض بناؤه ; لأنه تعدى فيه . وكان الهندواني يختار هذا القول . وقد ذكر في كتاب الصرف فيمن غصب درهما فجعله عروة مزادة سقط حق مالكه ، والفضة لا يسقط حق مالكها فيها بالصياغة ، وإنما أسقطه بكونها تابعة للمزادة ، وهذا لا يكون إلا بعمل يوقعه فيها على وجه التعدي فدل على أن المسألة على إطلاقها وأنه لا حق للمالك في الساجة في الوجهين .

وقال : إلى هنا لفظ القدوري . ولا يذهب عليك أن ما نقله عن القدوري صريح في أن القدوري لا يقبل رواية الكرخي في هذه المسألة على التقييد بأن بنى على حوالي الساجة ، ويستدل على إطلاقها بمسألة كتاب الصرف كما ترى ، فتعين أن رواية القدوري هذه المسألة بأن قال فبنى عليها لا يستند إلى الكرخي ، بل هو في هذه الرواية له ومتمسك بمسألة كتاب الصرف ، وإن أراد أن استناد رواية القدوري في أكثر المسائل إلى الكرخي بالطريق المزبور فهو مسلم ، لكن لا يجدي ذلك هاهنا شيئا فإن الكلام في مسألة الساجة وهو في روايتها يخالف الكرخي كما عرفت .

التالي السابق


الخدمات العلمية