صفحة جزء
، قال ( ولا يجوز الأكل والشرب والادهان والتطيب في آنية الذهب والفضة للرجال والنساء ) لقوله عليه الصلاة والسلام في الذي يشرب في إناء الذهب والفضة { إنما يجرجر في بطنه نار جهنم } { وأتي أبو هريرة رضي الله عنه بشراب في إناء فضة فلم يقبله وقال : [ ص: 6 ] نهانا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم } ، وإذا ثبت هذا في الشرب فكذا في الادهان ونحوه ; لأنه في معناه ولأنه تشبه بزي المشركين وتنعم بنعم المترفين والمسرفين ، وقال في الجامع الصغير : يكره ومراده التحريم ويستوي فيه الرجال والنساء لعموم النهي ، وكذلك الأكل بملعقة الذهب والفضة والاكتحال بميل الذهب والفضة وكذا ما أشبه ذلك كالمكحلة والمرآة وغيرهما لما ذكرنا .


( قوله وإذا ثبت هذا في الشرب فكذا في الادهان ونحوه ; لأنه في معناه ) [ ص: 7 ] أي لأن الادهان في آنية الذهب أو الفضة ونحوه في معنى الشرب منها ; لأن كلا من ذلك استعمال لها ، والمحرم هو الاستعمال بأي وجه كان لما فيه من التجبر والإسراف فيشمل الادهان والتطيب أيضا . وفي النهاية قيل : صورة الادهان المحرم هو أن يأخذ آنية الذهب أو الفضة ويصب الدهن على الرأس . أما إذا أدخل يده فيها وأخذ الدهن ، ثم صبه على الرأس من اليد لا يكره . كذا ذكره صاحب الذخيرة في الجامع الصغير ا هـ . قال صاحب العناية بعد نقل ذلك : ورأى أنه مخالف لما ذكره المصنف في المكحلة فإن الكحل لا بد وأن ينفصل عنها حين الاكتحال . ومع ذلك فقط ذكره في المحرمات انتهى .

أقول : يمكن دفع المخالفة بين القولين بأن المحرم في أواني الذهب والفضة وآلاتها هو استعمالها ، واستعمال آنية الذهب أو الفضة عند إرادة الادهان منها إنما يتحقق في العرف والعادة بأخذ آنيتهما وصب الدهن منها على البدن لا بإدخال اليد فيها وأخذ الدهن ، ثم صبه على البدن . وأما استعمال مكحلة الذهب أو الفضة فإنما يتصور عادة بإدخال الميل فيها ثم الاكتحال به فانفصال الكحل عنها حين الاكتحال لا يقدح في تحقق استعمالها فافترقا .

واعترض صاحب التسهيل على ما قيل في صورة الادهان المحرم بوجه آخر . وهو أنه يقتضي أن لا يكره إذا أخذ الطعام من آنية الذهب أو الفضة بملعقة ثم أكل منها ، وكذا إذا أخذه بيده وأكله منها . وأجاب عنه صاحب الدرر والغرر بما يقرب مما ذكرناه في دفع ما قاله صاحب العناية في المكحلة حيث قال بعد ذكر ذلك الاعتراض أقول : منشؤه الغفلة عن معنى عبارة المشايخ وعدم الوقوف على مرادهم .

أما الأول فلأن من في قولهم من إناء ذهب ابتدائية . وأما الثاني فلأن مرادهم أن الأدوات المصنوعة من المحرمات إنما يحرم استعمالها إذا استعملت فيما صنعت له بحسب متعارف الناس ، فإن الأواني الكبيرة المصنوعة من الذهب والفضة لأجل أكل الطعام إنما يحرم استعمالها إذا أكل الطعام منها باليد أو الملعقة ; لأنها وضعت لأجل ابتداء الأكل منها باليد أو الملعقة في العرف . وأما إذا أخذ منها ووضع على موضع مباح فأكل منه لم يحرم لانتفاء ابتداء الاستعمال منها ، وكذا الأواني الصغيرة المصنوعة لأجل الادهان ونحوه إنما يحرم استعمالها إذا أخذت وصب منها الدهن على الرأس أو على اليد ; لأنها إنما صنعت لأجل الادهان منها بذلك الوجه . وأما إذا أدخل يده فيها وأخذ الدهن وصبه على الرأس من اليد فلا يكره لانتفاء ابتداء الاستعمال منها ، فظهر أن مرادهم أن يكون ابتداء الاستعمال المتعارف من ذلك المحرم ، إلى هنا كلامه . أقول : فيه نوع استدراك بل اختلال ، فإن قوله منشؤه الغفلة عن معنى المشايخ ثم بيانه إياه بقوله أما الأول فلأن " من " في قولهم من إناء ذهب ابتدائية أمر زائد بل مختل . أما أولا فلأن المذكور في عبارة عامة المشايخ في آنية الذهب والفضة بكلمة في بدل كلمة من ، وعليه عبارة الكتاب والجامع الصغير والمحيط والذخيرة وعامة المعتبرات ، وإنما وقعت كلمة من في كلام بعض المتأخرين من أصحاب المتون .

وأما ثانيا فلأنه لا تأثير للابتداء في تمشية الجواب الذي ذكره هاهنا ، إذ يكفي فيها الفرق بين الاستعمال المتعارف وغيره ، سواء كان الاستعمال في الابتداء أو في الانتهاء ، يظهر ذلك بالتأمل الصادق والذوق السليم . ثم إن بعض المتأخرين بعد أن ذكر الجواب المذكور ، وطعن في بعض عباراته قال : والحق أن الفرق بين صور الادهان [ ص: 8 ] ليس بما ذكره المجيب . بل بوجود مماسة اليد بالإناء وقت الاستعمال في الصورتين وعدمها في الثالثة ، فإن للمماسة تأثيرا في الحرمة كما سيجيء من وجوب الاتقاء عن موضع الفضة في الإناء المفضض أو المضبب وقت الشرب فتأمل انتهى .

أقول : يرد على هذا الفرق الذي زعمه حقا النقض الذي أورده صاحب التسهيل ، فإنه إذا أخذ الطعام من آنية الذهب أو الفضة بملعقة ، ثم أكل منها أو أخذه بيده وأكله منها لم يوجد هناك مماسة اليد بالآنية مع أنه يكره بلا شك ، فالمخلص الكلي هنا إنما يحصل بالمصير إلى الفرق بين الاستعمال المتعارف وغيره لا بغير ذلك ، وأما الإناء المفضض أو المضبب فبمعزل عما نحن فيه ، فإنه ليس بخالص فضة أو ذهب بل هو مركب من لوح وفضة أو ذهب ، فاعتبر أبو حنيفة في حرمة الشرب منه مماسة العضو بالجزء الذي هو الفضة أو الذهب ولم يعتبرها صاحباه ، ولكل من الجانبين أصل يأتي بيانه

التالي السابق


الخدمات العلمية