صفحة جزء
[ ص: 89 ] سمي بها وهي جمع شراب لما فيه من بيان حكمها

قال ( الأشربة المحرمة أربعة : الخمر وهي عصير العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد ، والعصير إذا طبخ حتى يذهب أقل من ثلثيه ) وهو الطلاء المذكور في الجامع الصغير ( ونقيع التمر وهو السكر ، ونقيع الزبيب إذا اشتد وغلى )


قال جمهور الشراح : ذكر الأشربة بعد الشرب لأنهما شعبتا عرق واحد لفظا ومعنى ، وقصد بعض الفضلاء حل مرادهم [ ص: 89 ] بعرق واحد لفظا ومعنى فقال : العرق اللفظي ظاهر وهو الشرب مصدر شرب ، والعرق المعنوي لعله الأرض ، فإن كلا منهما يخرج منه إما بالواسطة أو بدونها انتهى . أقول : حمل مرادهم بالعرق المعنوي هاهنا على الأرض بناء على خروج الشرب منها بالذات ، وخروج الأشربة منها بالواسطة تعسف جدا لا تقبله الفطرة السليمة .

والصواب أن مرادهم بالعرق المعنوي هاهنا هو معنى لفظ الشرب الذي هو مصدر شرب ، فإن كلا منهما مشتق من ذلك المصدر ، ولا بد في الاشتقاق من التناسب بين المشتق والمشتق منه في اللفظ والمعنى ; وهاهنا أيضا كذلك ، وهذا معنى كونهما شعبتي عرق واحد لفظا ومعنى ، ويرشد إليه ما ذكر في غاية البيان حيث قال : ذكر كتاب الأشربة بعد الشرب لمناسبة بينهما في الاشتقاق وهو اشتراك اللفظين في المعنى الأصلي والحروف والأصول ا هـ . ثم إن من محاسن ذكر الأشربة بيان حرمتها ; إذ لا شبهة في حسن تحريم ما يزيل العقل الذي هو ملاك معرفة الله تعالى وشكر إنعامه .

فإن قيل : ما باله حل للأمم السابقة مع احتياجهم أيضا إلى العقل ؟ أجيب بأن السكر حرام في جميع الأديان ، وحرم شرب القليل من الخمر علينا كرامة لنا من الله تعالى لئلا نقع في المحظور بأن يدعو شرب القليل منها إلى شرب الكثير ونحن مشهود لنا بالخيرية .

فإن قيل : هلا حرمت علينا ابتداء ، والداعي المذكور موجود ؟ أجيب إما بأن الشهادة بالخيرية لم تكن إذ ذاك ، وإما لتدريج الضاري لئلا ينفر من الإسلام ، كذا في العناية .

أقول : في كل من وجهي الجواب الثاني نظر . أما في وجهه الأول فلأن الشهادة بالخيرية وإن لم تكن في ابتداء الإسلام ، إلا أن نفس خيرية هذه الأمة كانت في الابتداء والانتهاء كما لا يخفى على أحد ، وهي كافية في الكرامة فلا يتم التقريب .

وأما في وجهه الثاني فلأن نفرة الضاري بالخمر : أي المعتاد بها من الإسلام بتحريم الخمر يوجد بتحريمها في أي وقت كان ، فإنها إذا لم تحرم في ابتداء الإسلام كان الضاري بها على حاله في ابتداء الإسلام أيضا ، فإذا حرم بعد ذلك لزم أن ينفر عنه على مقتضى صعوبة ترك المعتاد ، وأيضا احتمال كون الاعتياد بخبيث باعثا على التنفير عن الإسلام عند النهي عن تعاطي ذلك الخبيث متحقق في كثير من المنكرات التي نهى عنها في ابتداء الإسلام ، مع أنه لم يعتبر ذلك في مقابلة ظهور شرف الإسلام فهاهنا أيضا ينبغي أن يكون كذلك ، فالوجه الوجيه في الجواب عن السؤال الثاني ما ذكره صاحب النهاية حيث قال : فإن قيل : هلا حرمت الخمر في ابتداء الإسلام مع وجود هذه الحكمة ؟ قلنا : أباحه الله تعالى في ابتداء الإسلام ليعاين الفساد في الخمر ، حتى إذا حرم عليهم عرفوا منة الحق لديهم ، وليس الخبر كالمعاينة انتهى ( قوله سمي بها وهي جمع شراب لما فيه من بيان حكمها ) يعني سمي [ ص: 90 ] هذا الكتاب بالأشربة : أي أضيف إليها ، والحال أن الأشربة جمع شراب ، وهو اسم في اللغة لكل ما يشرب من المائعات سواء كان حراما أو حلالا ، وفي استعمال أهل الشرع اسم لما هو حرام منه وكان مسكرا لما فيه : أي في هذا الكتاب من بيان حكمها : أي حكم الأشربة كما سمي كتاب الحدود لما فيه من بيان حكم الحدود ، وكما سمي كتاب البيوع لما فيه من بيان حكم البيوع ، هذا زبدة ما ذكر ها هنا في جملة الشروح والكافي مع نوع زيادة في حل الألفاظ .

قال بعض الفضلاء : في تفسير قوله من بيان حكمها : أي بيان حكم أنواعها ، وقال : ولعل ذلك تمهيد العذر لعنوانه الكتاب بصيغة الجمع : يعني إنما عنون بها ; لأن فيه بيان أحكام أنواعها كما في البيوع ، أو لإضافة الكتاب إلى الأعيان ، والفقه يبحث عن أفعال المكلفين ، فوجهه حينئذ أن الحكم وهو الحرمة ها هنا وصف للأعيان لا للأفعال فلذلك عنون بالأعيان ويعلم منه حال الأفعال ، والتفصيل في كتب الأصول خصوصا التلويح في أوائل القسم الثاني ، إلى هنا كلامه .

أقول : ليس لتوجيهه الذي ذكره لإضافة الكتاب إلى الأعيان معنى محصل ; لأنه إن أراد أن الحكم وهو الحرمة ها هنا وصف للأعيان حقيقة لا للأفعال فهو ممنوع ، إذ قد تقرر في كتب الأصول سيما في التلويح في أوائل القسم الثاني أن إضافة الحل والحرمة إلى الأعيان كحرمة الميتة والخمر والأمهات ونحو ذلك مجاز عند كثير من المحققين من باب إطلاق اسم المحل على الحال ، أو هو مبني على حذف المضاف : أي حرم أكل الميتة وشرب الخمر ونكاح الأمهات لدلالة العقل على الحذف ، والمقصود الأظهر على تعيين المحذوف ، وأما عند بعضهم وإن كانت إضافة الحل والحرمة إلى الأعيان حقيقة لوجهين مفصلين في محله ، إلا أن كون إضافتهما إلى الأفعال حقيقة مما لم ينكره أحد قط ، بل من يقول بكون إضافتهما إلى الأعيان حقيقة إنما يقيس إضافتهما إلى الأعيان على إضافتهما إلى الأفعال في كونها حقيقة ، ويستمد بذلك في توجيه مذهبه ، فلا مجال للقول بأن الحرمة وصف للأعيان حقيقة لا للأفعال على كلا المذهبين .

وإن أراد أن الحرمة ها هنا وصف للأعيان مجازا لا للأفعال لا يتم قوله فلذلك عنون بالأعيان ; لأن كون الحرمة وصفا للأعيان مجازا لا يقتضي أن يعنون الكتاب بالأعيان ، بل رعاية جانب الحقيقة في العنوان أولى وأحسن بلا ريب ، فكان الذي ينبغي أن يعنون بالفعل بأن يقال كتاب شرب الأشربة حتى يراعى كون الفقه باحثا عن أفعال المكلفين بلا كلفة أن يقال ويعلم منه حال الأفعال .

وبالجملة توجيهه المذكور ليس بتام على كل حال

التالي السابق


الخدمات العلمية