صفحة جزء
[ ص: 113 ] فصل الجوارح قال ( ويجوز الاصطياد بالكلب المعلم والفهد والبازي وسائر الجوارح المعلمة وفي الجامع الصغير : وكل شيء علمته من ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير فلا بأس بصيده ، ولا خير فيما سوى ذلك إلا أن تدرك ذكاته ) [ ص: 114 ] والأصل فيه قوله تعالى { وما علمتم من الجوارح مكلبين }

[ ص: 115 ] والجوارح : الكواسب

قال في تأويل المكلبين : المسلطين ، فيتناول الكل بعمومه ، دل عليه ما روينا من حديث عدي رضي الله عنه

واسم الكلب في اللغة يقع على كل سبع حتى الأسد

وعن أبي يوسف أنه استثني من ذلك الأسد والدب ; لأنهما لا يعملان لغيرهما

الأسد لعلو همته والدب لخساسته ، وألحق بهما بعضهم الحدأة لخساستها ، والخنزير مستثنى ; لأنه نجس العين فلا يجوز الانتفاع به ثم لا بد من التعليم ; لأن ما تلونا من النص ينطق باشتراط التعليم والحديث به وبالإرسال ، ولأنه إنما يصير آلة بالتعليم ليكون عاملا له فيترسل بإرساله ويمسكه عليه .


[ ص: 113 ] ( فصل في الجوارح )

قدم فصل الجوارح على فصل الرمي ; لأن آلة الصيد هنا حيوان وفي الرمي جماد ، وللحيوان فضل على الجماد ، والفاضل يقدم على المفضول ، كذا في الشروح ( قوله وفي الجامع الصغير : وكل شيء علمته من ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير فلا بأس بصيده ، ولا خير فيما سوى ذلك إلا أن تدرك ذكاته ) قال صاحب العناية : إنما أورد رواية الجامع الصغير بقوله : ولا خير فيما سوى ذلك : أي فيما سوى المعلمة من ذي الناب والمخلب ، فإن رواية القدوري تدل على الإثبات لا غير ، ورواية الجامع الصغير تدل على الإثبات والنفي جميعا انتهى

أقول : فيه شيء ; إذ قد صرحوا في شروح هذا الكتاب وغيرها بأن تخصيص الشيء بالذكر في الروايات يدل على نفي الحكم عما عداه بالاتفاق ، فرواية القدوري أيضا تدل على إثبات جواز الاصطياد بما ذكر ، ونفي جوازه بما سوى ذلك فلا يتم قوله : إن رواية القدوري تدل على الإثبات لا غير ، اللهم إلا أن يكون مراده أن رواية القدوري تدل بمنطوقها على الإثبات لا غير ، وإن دلت بمفهومها على النفي أيضا

وأما رواية الجامع الصغير فتدل بمنطوقها على الإثبات والنفي معا لكن لا يظهر حينئذ في إيراد رواية الجامع الصغير كبير نفع كما لا يخفى

قال جماعة من الشراح : إنما ذكر في الجامع الصغير بلفظ لا بأس مع ثبوت إباحة الاصطياد بالكتاب ; لأن قوله تعالى { وما علمتم من الجوارح } قد خص منه البعض وهو الخنزير والأسد والدب ، والنص إذا خص منه البعض يصير ظنيا فتتمكن فيه الشبهة كما عرف في الأصول فلذلك ذكر بلفظ لا بأس انتهى

أقول : فيه نظر ; لأن الخنزير مخصوص من النص المذكور بالعقل ; لأنه نجس العين ، والعقل يدل على عدم جواز الانتفاع بالنجس ، وقد عرف في علم الأصول أن النص الذي خص منه شيء بالعقل لا يصير ظنيا بل يكون قطعيا لكونه في حكم الاستثناء ، وقد أشار إليه المصنف بقوله فيما بعد : والخنزير مستثنى ; لأنه نجس العين ولا يجوز الانتفاع به

وأما الأسد والدب فليسا بداخلين رأسا في النص المذكور ; لأنهم صرحوا بأن الأسد والدب لا يصلحان للتعليم ; لأنهما لا يعملان [ ص: 114 ] للغير فلم يدخلا تحت قوله تعالى { وما علمتم من الجوارح } ولا يخفى أن تخصيص شيء من شيء فرع دخوله فيه أولا ، فإذا لم يدخلا في النص المذكور لم يكونا مخصوصين منه

ولئن سلم كون كل من تلك الثلاثة مخصوصا من النص المذكور ، وكون تخصيص كل واحد منها منه بالكلام المستقل دون العقل فلا نسلم كون ذلك النص بعده ظنيا ; إذ قد تقرر في علم الأصول أن العام الذي أخرج منه البعض بكلام مستقل إنما يصير ظنيا إذا كان المخرج موصولا بذلك

وأما إذا لم يكن موصولا به فيكون قطعيا في الباقي ويطلق على مثل هذا الإخراج في عرف أهل الأصول النسخ دون التخصيص ، ولا شك أن مخرج تلك الجوارح الثلاثة من النص المزبور ليس بموصول بذلك النص فلا يصير ظنيا لا محالة تبصر ( قوله والأصل فيه قوله تعالى { وما علمتم من الجوارح مكلبين } ) وذلك ; لأنه عطف على : الطيبات في قوله تعالى { قل أحل لكم الطيبات } أي أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم من الجوارح فحذف المضاف ، كذا في الكافي والشروح

قال صاحب العناية بعد ذلك : فيه نظر ; لأن القران في النظم لا يوجب القران في الحكم

والجواب أن ذلك إذا لم يدل إلا دليل على القران وهاهنا قد دل ، فإن قوله تعالى { قل أحل لكم الطيبات } جواب عن قوله تعالى { يسألونك ماذا أحل لهم } فإن لم يكن { وما علمتم من الجوارح } مقارنا له لم يكن ذكره على ما ينبغي انتهى

أقول : نظره فاسد ، وجوابه كاسد

أما الأول فلأن اشتراك المعطوف مع المعطوف عليه في الحكم السابق واجب لا محالة مقرر في علم النحو بلا ارتياب ، فيلزم في الآية المذكورة الاشتراك في حكم الإحلال ضرورة ، وقول الأصوليين : القران في النظم لا يوجب القران في الحكم ليس بإنكار لمثل هذه القاعدة المقررة في علم النحو ، بل معناه أن مجرد المقارنة في النظم لا يوجب المقارنة في الحكم بدون أن يتحقق أمر مقتضى للمقارنة في الحكم أيضا ، وفيما نحن فيه قد تحقق ذلك وهو قضية العطف

وأما الثاني فلأن لقائل أن يقول : إنما يلزم من أن لا يكون { وما علمتم من الجوارح } مقارنا ل : { أحل لكم الطيبات } أن لا يكون ذكره على ما ينبغي لو كان { وما علمتم من الجوارح } داخلا تحت جواب قوله تعالى { يسألونك ماذا أحل لهم } ومن يقول : إن القران في النظم لا يوجب القران في الحكم كيف يسلم ذلك ، بل يقول : يجوز أن يكون جواب ذلك { قل أحل لكم الطيبات } فقط ويكون ما بعده كلاما مستقلا مسوقا لبيان حكم جديد ولإفادة فائدة أخرى

ثم قال صاحب العناية : ويجوز أن يكون { وما علمتم من [ ص: 115 ] الجوارح } شرطية ، وجوابه { فكلوا مما أمسكن عليكم } وهو سالم عن الاعتراض المذكور فالحمل عليه أولى انتهى

أقول : في تفريع قوله فالحمل عليه أولى خلل ; لأن الاعتراض المذكور لا يرد على معنى الآية بالتفسير الأول ، بل على الاستدلال به على مسألتنا هذه ، ولا يخفى أن تعين معنى الآية أو رجحان أحد محتمليها لا يتوقف على تمام الاستدلال بها ، بل الأمر بالعكس ، فما معنى تفريع قوله فالحمل عليه أولى على قوله ، وهو سالم عن الاعتراض المذكور ( قوله : والجوارح الكواسب ، قال في تأويل : والمكلبين المسلطين ، فيتناول الكل بعمومه ، دل عليه ما روينا من حديث عدي ) قال صاحب العناية : واستدل المصنف على صحة التأويل بعموم حديث عدي بن حاتم

أقول : لا صحة لهذا الكلام ; إذ لا يذهب على ذي مسكة أن ليس مقصود المصنف بيان صحة تأويل دون صحة تأويل آخر ; إذ لا تنافي بين التأويلين كما سيجيء في الكتاب ، وأيضا عموم حديث عدي لا ينافي التأويل الآخر ، وهو أن يكون الجوارح هي التي تجرح من الجراحة بل يوافقه أيضا ، فما معنى الاستدلال بعمومه على صحة تأويل دون آخر ، فالظاهر أن مراد المصنف بقوله : دل عليه ما روينا من حديث عدي إنما هو الاستدلال على تناول ما في الآية الكل بحديث عدي بن حاتم ، فالمعنى دل على تناول الكل ما رويناه من حديث عدي وبينه بقوله : واسم الكلب في اللغة يقع على كل سبع حتى الأسد لكن بقي شيء في كلام المصنف ، وهو أن المدعى جواز الاصطياد بكل شيء علمته من ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير ، فالمراد بالتناول في قوله فيتناول الكل بعمومه إنما هو التناول لكل ما في المدعى

ولا يخفى أن حديث عدي لا يدل عليه ; لأنه لا يتناول جوارح الطيور ، وإنما يتناول جوارح السباع على تقدير أن يراد بالكلب المذكور فيه كل ذي سبع دون النوع المعين المعروف ( قوله : لأن ما تلونا من النص ينطق باشتراط التعليم والحديث به وبالإرسال ) أقول : فيه نوع شبهة ; لأن كون ما تلاه من الآية ناطقا بالتعليم ، وما رواه من الحديث ناطقا بالتعليم وبالإرسال مما لا كلام فيه

وأما كون ما تلاه من الآية ناطقا باشتراط التعليم ، وكون ما رواه من الحديث ناطقا باشتراط التعليم كما هو المدعى ها هنا وباشتراط الإرسال أيضا فليس بظاهر ، وإنما يدلان على الاشتراط المذكور بطريق مفهوم المخالفة ، وهو ليس بحجة عندنا في الأدلة الشرعية كما عرف .

التالي السابق


الخدمات العلمية