صفحة جزء
( وكل ماء وقعت فيه النجاسة لم يجز الوضوء به قليلا كانت النجاسة أو كثيرا ) [ ص: 74 ] وقال مالك رحمه الله : يجوز ما لم يتغير أحد أوصافه لما روينا . وقال الشافعي رحمه الله : يجوز إذا كان الماء قلتين لقوله عليه الصلاة والسلام { إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا } ولنا حديث المستيقظ من منامه ، وقوله [ ص: 75 ] عليه الصلاة والسلام { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من الجنابة } من غير فصل ، والذي رواه مالك رحمه الله ورد في بئر بضاعة وماؤها كان جاريا في البساتين ، [ ص: 76 ] وما رواه الشافعي رحمه الله ضعفه أبو داود ، وهو يضعف عن احتمال النجاسة .


( قوله وقال مالك ، إلى قوله : لما روينا ) يعني الماء طهور إلخ ، وتقدم عدم صحة الاستدلال به على الحصر المذكور . ولنذكر تلك الطريقة الموعودة .

قال الشيخ تقي الدين : من غريب ما يستدل به عليه حديث أبي ثعلبة أخرجاه عنه قال { قلت يا رسول الله إنا بأرض أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم ؟ قال : إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها } وفي رواية أبي داود { إنا نجاور قوما أهل كتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر } فذكره . وحديث عمران بن حصين في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم من مزادة المشركة ، فإن الأول يدل على نجاسة الإناء والثاني على طهارة الماء ، فجمعهما بأن النجاسة ما لم تؤثر في الماء لم تغيره ، لكن جمهور العلماء على أن النهي في الحديث السابق للكراهة .

والأمر بالغسل للندب لا للنجاسة ما لم تتحقق لما ثبت من أكله صلى الله عليه وسلم في بيت اليهودية التي سمته صلى الله عليه وسلم .

وروى أحمد في مسنده { أنه صلى الله عليه وسلم أضافه اليهودي بخبز وإهالة سنخة } فإنهما يقتضيان مع عدم تنجس المأكول عدم تنجس الإناء ، إذ لا يقال في الطعام إنه لا يتنجس ما لم يتغير ، على أن الحديث روي مع الاستثناء من طريقين من غير طريق رشدين للبيهقي : أحدهما عن عطية بن بقية بن الوليد عن أبيه عن ثور بن يزيد عن راشد بن سعد عن أبي أمامة رضي الله عنه عنه صلى الله عليه وسلم { إن الماء طاهر إلا أن يتغير ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيه } الثاني عن حفص بن عمر حدثنا ثور به { الماء لا ينجس إلا ما غير طعمه أو ريحه } قال البيهقي : والحديث غير قوي ( قوله لقوله صلى الله عليه وسلم ) روى أصحاب السنن الأربعة عن ابن عمر { : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسأل عن الماء يكون في الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب فقال إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث } وأخرجه ابن خزيمة [ ص: 75 ] والحاكم في صحيحيهما . قال المصنف : ضعفه أبو داود ، قيل لعله في غير سننه . ووجهه أن الاضطراب الذي وقع في سنده حيث اختلف على أبي أسامة ، فمرة يقول عن الوليد بن كثير عن محمد بن عباد بن جعفر ، ومرة عنه عن محمد بن جعفر بن الزبير وإن دفع بأن الوليد رواه عن كل من المحمدين فحدث مرة عن أحدهما ومرة عن الآخر ، وكذا دفع تغليظ أبي أسامة في آخر السند إذ جعله من حديث عبد الله بن عبد الله بن عمر ، وإنما هو عبيد الله بن عبد الله بأنهما ابنا عبد الله بن عمر رويا عنه ، بقي فيه اضطراب كثير في متنه ، ففي رواية الوليد عن محمد بن جعفر بن الزبير { لم ينجسه شيء } ورواية محمد بن إسحاق بسنده : سئل عن الماء يكون بالفلاة وترده السباع والكلاب فذكر الأول . قال البيهقي : وهو غريب . وقال إسماعيل بن عياش عن محمد بن إسحاق الكلاب والدواب .

ورواه يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة فقال الحسن بن الصباح عنه عن حماد عن عاصم هو ابن المنذر قال : دخلت مع عبيد الله بن عبد الله بن عمر بستانا فيه مقرى ماء فيه جلد بعير ميت فتوضأ منه . [ ص: 76 ] فقلت له : أنتوضأ منه وفيه جلد بعير ميت ؟ فحدثني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إذا بلغ الماء قلتين أو ثلاثا لم ينجسه شيء } ورواه أبو مسعود الرازي عن يزيد فلم يقل أو ثلاثا . وروى الدارقطني وابن عدي والعقيلي في كتابه عن القاسم بن عبيد الله العمري عن محمد بن المنكدر عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا بلغ الماء أربعين قلة فإنه لا يحمل الخبث } وضعفه الدارقطني بالقاسم . وذكر أن الثوري ومعمر بن راشد وروح بن القاسم رووه عن ابن المنكدر عن عبد الله بن عمر موقوفا ، ثم روي بإسناد صحيح من جهة روح بن القاسم عن أبي المنكدر عن ابن عمر قال { إذا بلغ الماء أربعين قلة لم ينجس } وأخرج رواية سفيان من جهة وكيع وأبي نعيم عنه { إذا بلغ أربعين قلة لم ينجسه شيء } وأخرج رواية معمر من جهة عبد الرزاق عن غير واحد عنه ، وأخرج عن أبي هريرة من جهة بشر بن السري عن ابن لهيعة قال { إذا كان الماء قدر أربعين قلة لم يحمل خبثا } قال الدارقطني : كذا قال ، وخالفه غير واحد رووه عن أبي هريرة فقالوا أربعين غربا . ومنهم من قال أربعين دلوا . وهذا الاضطراب يوجب الضعف وإن وثقت الرجال مع ما فيه من الاضطراب في معناه أيضا . وهو الذي ذكره المصنف بقوله أو هو يضعف إلى آخره : يعني لم يحمل خبثا أنه يضعف عن النجاسة فيتنجس ، كما يقال : هو لا يحمل الكل : أي لا يطيقه ، لكن المعنى حينئذ أنه أجاب السؤال عن طهارة الماء الذي تنوبه السباع ونجاسته بأنه إذا بلغ قلتين في القلة ينجس ، وهو يستلزم أحد أمرين : إما عدم تمام الجواب إن لم يعتبر مفهوم شرطه فإنه حينئذ لا يفيد حكمه إذا زاد على القلتين والسؤال عن ذلك الماء كيف كان ، وأما اعتبار المفهوم ليتم الجواب . والمعنى حينئذ : إذا كان قلتين ينجس لا إن زاد ، فإن وجب اعتباره هنا لقيام الدليل عليه وهو كي لا يلزم إخلاء السؤال عن الجواب المطابق كان الثابت به خلاف المذهب ، إذا لم نقل بأنه إذا زاد على قلتين شيئا ما لا ينجس ما لم يتغير ، فالمعول عليه في كلام المصنف الاضطراب في معنى القلة فإنه مشترك يقال على الحرة والقربة ورأس الجبل .

وقول الشافعي في مسنده : أخبرني مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج بإسناد لا يحضرني { أنه عليه الصلاة والسلام قال إذا كان الماء قلتين لم يحمل خبثا } وقال في الحديث : بقلال هجر . قال ابن جريج : رأيت قلال هجر فالقلة تسع قربتين أو قربتين وشيئا قال الشافعي : فالاحتياط أن يجعل قربتين ونصفا ، فإذا كان خمس قرب كبار كقرب الحجاز لم ينجس إلا أن يتغير منقطع للجهالة . ثم سبر الحديث لاستخراج ذلك السند أفاد وجود رفع هذه الكلمة في سند ذكره ابن عدي من حديث مغيرة بن سقلاب عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم { إذا كان الماء قلتين من قلال هجر لم ينجسه شيء } ويذكر أنهما فرقان . قال ابن عدي : قوله [ ص: 77 ] في متنه " من قلال هجر " غير محفوظ لا يذكر إلا في هذا الحديث من رواية مغيرة بن سقلاب ، يكنى أبا بشر منكر الحديث ، ثم أسند من كلام غيره فيه ما هو أقطع من هذا ، وقد رواه الدارقطني بسند فيه ابن جريج ولم يذكر فيه هذه الكلمة ، وفيه قال محمد : قلت ليحيى بن عقيل : أي قلال ؟ قال : قلال هجر ، قال محمد : فرأيت قلال هجر فأظن كل قلة تسع فرقين . فهذا لو كان رفعا للكلمة كان مرسلا فكيف وليس به . وفيه أن مجموع القلتين أربعة وستون رطلا ، وفي الأول أنهما اثنان وثلاثون رطلا وهو لا يقول به . وروى ابن عدي من حديث المغيرة بن سقلاب عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم { إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء } والقلة أربعة آصع . هذا تلخيص ما ذكره الشيخ تقي الدين في الإمام ، وبه ترجح ضعف الحديث عنده ، ولذا لم يذكره في الإلمام مع شدة حاجته إليه ، وممن ضعفه الحافظ ابن عبد البر والقاضي إسماعيل بن إسحاق وأبو بكر بن العربي المالكيون ، وفي البدائع عن ابن المديني : لا يثبت حديث القلتين فوجب العدول عنه ، وإذا ثبت هذا فما استدل به المصنف للمذهب من قوله صلى الله عليه وسلم { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من الجنابة } كما هو رواية أبي داود ، { أو ثم يغتسل منه أو فيه } كما هو روايتا الصحيحين لا يمس محل النزاع ، وهذا لأن حقيقة الخلاف إنما هو في تقدير الكثير الذي يتوقف تنجسه على تغيره للإجماع على أن الكثير لا ينجس إلا به ، فقال مالك : ما لم يتغير للحديث السابق ، فحينئذ يختلف بحسب اختلاف النجاسة في الكم وقال الشافعي : قلتان للحديث المذكور آنفا .

وقال أبو حنيفة في ظاهر الرواية : يعتبر فيه أكبر رأي المبتلى إن غلب على ظنه أنه بحيث تصل النجاسة إلى الجانب الآخر لا يجوز الوضوء وإلا جاز ، وعنه اعتباره بالتحريك على ما هو مذكور في الكتاب بالاغتسال أو بالوضوء أو باليد روايات ، والأول أصح عند جماعة منهم الكرخي وصاحب الغاية والينابيع وغيرهم ، وهو الأليق بأصل أبي حنيفة : أعني عدم التحكم بتقدير فيما لم يرد فيه تقدير شرعي والتفويض فيه إلى رأي المبتلى بناء على عدم صحة ثبوت تقديره شرعا . والتقدير بعشر في عشر وثمان في ثمان واثني عشر في اثني عشر ، وترجيح الأول أخذا من حريم البئر غير منقول عن الأئمة الثلاثة . قال شمس الأئمة : المذهب الظاهر التحري والتفويض إلى رأي المبتلى من غير حكم بالتقدير ، فإن غلب على الظن وصولها تنجس ، وإن غلب عدم وصولها لم ينجس ، وهذا هو الأصح ا هـ .

وما نقل عن محمد حين سئل عنه إن كان مثل مسجدي هذا فكثير ، فقيس حين قام فكان اثني عشر في مثلها ، في رواية : وثمانيا في ثمان في أخرى لا يستلزم تقديره به إلا في نظره ، وهو لا يلزم غيره ، وهذا لأنه لما وجب كونه ما استكثره المبتلى فاستكثار واحد لا يلزم غيره بل [ ص: 78 ] يختلف باختلاف ما يقع في قلب كل ، وليس هذا من قبيل الأمور التي يجب فيها على العامي تقليد المجتهد . ثم رأيت التصريح بأن محمدا رجع عن هذا قال الحاكم : قال أبو عصمة : كان محمد بن الحسن يوقت في ذلك عشرة في عشرة ، ثم رجع إلى قول أبي حنيفة وقال : لا أوقت فيه شيئا ، فإذا عرفت هذا فقوله صلى الله عليه وسلم { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه } إنما يفيد تنجس الماء في الجملة لا كل ماء ، فليست اللام فيه للاستغراق للإجماع على أن الكثير لا ينجس إلا بتغيره بالنجاسة فيقول الخصم إذا بموجبه نقول ، المراد أن بعض الماء ينجس ، وأنا أقول إنه إذا تغير أو لم يبلغ قلتين ينجس ، وبذلك تحصل المطابقة لقولنا الماء ينجس في الجملة .

فالتحقيق في سوق الخلافية أن يقال : يفوض إلى رأي المبتلى غير مقدر بشيء لعدم المدرك الشرعي قول الخصم بل فيه المدرك وهو حديث القلتين قلنا فيه ما تقدم . وقول مالك : بل فيه وهو حديث { الماء طهور } حيث أناط الكثرة بعدم التغير . قلنا ورد في بئر بضاعة على ما تقدم وماؤها كان جاريا في البساتين كما رواه الطحاوي عن ابن أبي عمران عن أبي عبد الله محمد بن شجاع الثلجي بالمثلثة عن الواقدي قال : كانت بئر بضاعة طريقا للماء إلى البساتين ، وهذا تقوم به الحجة عندنا إذا وثقنا الواقدي ، أما عند المخالف فلا لتضعيفه إياه مع أنه أرسل هذا خصوصا مع ادعائهم أن المشهور من حال بئر بضاعة في الحجاز غير هذا ، ثم لو تنزلوا عن هذه الأمور المختلفة كان العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب . والجواب بأن هذا من باب الحمل لدفع التعارض لا ينتهض ، إذ لا تعارض لأن حاصل النهي عن البول في الماء الدائم تنجس الماء الدائم في الجملة .

وحاصل : الماء طهور لا ينجسه شيء عدم تنجس إلا بالتغير بحسب ما هو المراد المجمع عليه ، ولا تعارض بين مفهومي هاتين القضيتين . فإن قيل هنا معارض آخر يوجب الحمل المذكور وهو حديث المستيقظ من منامه وقد خرجناه .

قلنا ليس فيه تصريح بتنجس الماء بتقدير كون اليد نجسة ، بل ذلك تعليل منا للنهي المذكور وهو غير لازم : أعني تعليله بتنجس الماء عينا بتقدير نجاستها لجواز كونه الأعم من النجاسة والكراهة فنقول : نهى لتنجس الماء بتقدير كونها متنجسة بما يغير أو الكراهة بتقدير كونها بما لا يغير ، وأين هو من ذلك الصريح الصحيح لكن يمكن إثبات المعارض بقوله صلى الله عليه وسلم { طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه } الحديث ، فإنه يقتضي نجاسة الماء ولا تغير بالولوغ فتعين ذلك الحمل ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية