صفحة جزء
قال ( وفرض المسافر في الرباعية ركعتان لا يزيد عليهما ) وقال الشافعي رحمه الله فرضه الأربع والقصر رخصة اعتبارا بالصوم . ولنا أن الشفع الثاني لا يقضى ولا يؤثم على تركه ، وهذا آية النافلة بخلاف الصوم ; لأنه يقضى [ ص: 32 ] ( وإن صلى أربعا وقعد في الثانية قدر التشهد أجزأته الأوليان عن الفرض والأخريات له نافلة ) اعتبارا بالفجر ، ويصير مسيئا لتأخير السلام ( وإن لم يقعد في الثانية قدرها بطلت ) ; لاختلاط النافلة بها قبل إكمال أركانها .


( قوله : وهذا آية النافلة ) يعني ليس معنى كون الفعل فرضا إلا كونه مطلوبا ألبتة قطعا أو ظنا على الخلاف الاصطلاحي ، فإثبات التخيير بين أدائه وتركه رخصة في بعض الأوقات [ ص: 32 ] ليس حقيقته إلا نفي افتراضه في ذلك الوقت للمنافاة بينه وبين مفهوم الفرض ، فيلزم بالضرورة أن ثبوت الترخص مع قيام الافتراض لا يتصور إلا في التأخير ونحوه من عدم إلزام بعض الكيفيات التي عهدت لازمة في الفرض ، وهذا المعنى قطعي في الإسقاط فيلزم كون الفرض ما بقي ، بخلاف الفقير إذا حج حيث يقع عن الفرض إن لم ينو النفل مع أنه لا يأثم بتركه ; لأنه افترض عليه حين صار داخل المواقيت .

وأما وقوع الزائد على القراءة المسنونة فرضا لا نفلا مع أنه لا يأثم بتركها فجوابه ما سلف في فصل القراءة من أن الواجب أحد الأمرين فارجع إليه ، هذا وفيه حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين قالت { فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر } وفي لفظ قالت { فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين أتمها في الحضر وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى } زاد في لفظ قال الزهري : قلت لعروة : فما بال عائشة تتم في السفر قال : إنها تأولت كما تأول عثمان . وفي لفظ للبخاري قالت { فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعا ، فتركت صلاة السفر على الأول } ذكره في باب من أين أرخوا التاريخ .

وهذه الرواية ترد قول من قال : إن زيادة صلاة الحضر كانت قبل الهجرة ، وهذا وإن كان موقوفا فيجب حمله على السماع ; لأن أعداد الركعات لا يتكلم فيها بالرأي ، وكون عائشة تتم لا ينافي ما قلنا : إذ الكلام في أن الفرض كم هو لا في جواز إتمام أربع فإنا نقول : إذا أتم كانت الأخريان نافلة ، لكن فيه أن المسنون في النفل عدم بنائه على تحريمة الفرض ، فلم تكن عائشة رضي الله عنها تواظب على خلاف السنة في السفر ، فالظاهر أن وصلها بناء على اعتقاد وقوع الكل فرضا فليحمل على أنه حدث لها تردد أو ظن في أن جعلها ركعتين للمسافر مقيد بحرجه بالإتمام ، يدل عليه ما أخرجه البيهقي أو الدارقطني بسند صحيح عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها " أنها كانت تصلي في السفر أربعا ، فقلت لها لو صليت ركعتين ، فقالت : يا ابن أختي إنه لا يشق علي " وهذا والله أعلم هو المراد من قول عروة : إنها تأولت : أي تأولت أن الإسقاط مع الحرج ، لا أن الرخصة في التخيير بين الأداء والترك مع بقاء الافتراض في المخير في أدائه ; لأنه غير معقول . هذا ما في كتب الحديث ، وأما المذكور في بعض كتب الفقه من أنها كانت لا تعد نفسها مسافرة بل حيث حلت كانت مقيمة ، ونقل قولها " أنا أم المؤمنين فحيث حللت فهو داري " لما سئلت عن ذلك فبعيد ، ويقتضي أن لا يتحقق لها سفر أبدا في دار الإسلام ، ولذا كان المروي عن [ ص: 33 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم المواظبة على القصر في صحيح البخاري { عن ابن عمر رضي الله عنه صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله ، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله ، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله ، وصحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله تعالى ، وقد قال تعالى { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } } . انتهى .

وهو معارض للمروي من أن عثمان كان يتم ، والتوفيق أن إتمامه المروي كان حين قام بمنى أيام منى ، ولا شك أن حكم السفر منسحب على إقامة أيام منى فساغ إطلاق أنه أتم في السفر ، ثم كان ذلك منه بعد ما مضى الصدر من خلافته ; لأنه تأهل بمكة على ما رواه أحمد أنه صلى بمنى أربع ركعات فأنكر الناس عليه فقال : أيها الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { من تأهل في بلد فليصل صلاة المقيم } مع أن في الباب ما هو مرفوع ، ففي مسلم عن ابن عباس { فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربع ركعات ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة } وهذا رفع ، ورواه الطبراني بلفظ { افترض رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين في السفر كما افترض في الحضر أربعا } .

وأخرج النسائي وابن ماجه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عمر رضي الله عنه قال { صلاة السفر ركعتان ، وصلاة الأضحى ركعتان ، وصلاة الفطر ركعتان ، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم } ورواه ابن حبان في صحيحه ، وإعلاله بأن عبد الرحمن لم يسمع من عمر مدفوع بثبوت ذلك حكم به مسلم في مقدمة كتابه ، ولو لم يكن شيء من ذلك كان فيما حققناه من المعنى المفيد لنفلية الركعتين كفاية . واعلم أن من الشارحين من يحكي خلافا بين المشايخ في أن القصر عندنا عزيمة أو رخصة ، وينقل اختلاف عبارتهم في ذلك ، وهو غلط ; لأن من قال رخصة عنى رخصة الإسقاط ، وهو العزيمة ، وتسميتها رخصة مجاز وهذا بحيث لا يخفى على أحد

التالي السابق


الخدمات العلمية