صفحة جزء
[ ص: 33 ] ( وإذا فارق المسافر بيوت المصر صلى ركعتين ) ; لأن الإقامة تتعلق بدخولها فيتعلق السفر بالخروج عنها . وفيه الأثر عن علي رضي الله عنه ، لو جاوزنا هذا الخص لقصرنا [ ص: 34 ] ( ولا يزال على حكم السفر حتى ينوي الإقامة في بلدة أو قرية خمسة عشر يوما أو أكثر ، وإن نوى أقل من ذلك قصر ) ; لأنه لا بد من اعتبار مدة [ ص: 35 ] لأن السفر يجامعه اللبث فقدرناها بمدة الطهر ; لأنهما مدتان موجبتان ، وهو مأثور عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ، والأثر في مثله كالخبر ، والتقييد بالبلدة والقرية يشير إلى أنه لا تصح نية الإقامة في المفازة وهو الظاهر


. ( قوله : وإذا فارق ) بيان لمبدإ القصر ، ويدخل في بيوت المصر ربضه ، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام { أنه قصر العصر بذي الحليفة } . وروى ابن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه أنه خرج من البصرة فصلى الظهر أربعا ثم قال : إنا لو جاوزنا هذا الخص لصلينا ركعتين .

فإن قيل : عند المفارقة يتحقق مبدأ الفناء إذ هو مقدر بغلوة في المختار . وقيل بأكثر مما سنذكره في باب الجمعة ، والفناء ملحق بالمصر شرعا حتى جازت الجمعة والعيدان فيه ، ومقتضاه أن لا يقصر بمجرد المفارقة للبيوت بل إذا جاوز الفناء . أجيب بأنه إنما ألحق به فيما هو من حوائج أهله المقيمين فيه لا مطلقا ، وأما على قول من منع الجمعة فيه إذا كان منقطعا عن العمران فلا يرد الإشكال . وفي فتاوى قاضي خان : فصل في الفناء ، فقال : إن [ ص: 34 ] كان بينه وبين المصر أقل من قدر غلوة ولم يكن بينهما مزرعة يعتبر مجاوزة الفناء أيضا ، وإن كان بينهما مزرعة أو كانت المسافة بينه وبين المصر قدر غلوة يعتبر مجاوزة عمران المصر هذا ، وإذا كانت قرية أو قرى متصلة بربض المصر لا يقصر حتى يجاوزها . وفي الفتاوى أيضا إن كان في الجانب الذي خرج منه محلة منفصلة عن المصر وفي القديم كانت متصلة بالمصر لا يقصر حتى يجاوز تلك المحلة .

والحاصل أنه قد صدق مفارقة بيوت المصر مع عدم جواز القصر ، ففي عبارة الكتاب إرسال غير واقع ; ولو ادعينا أن بيوت تلك القرى داخلة في مسمى بيوت المصر اندفع هذا لكنه تعسف ظاهر ، ثم المعتبر مجاوزة بيوت الجانب الذي خرج منه ، فلو جاوزها وتحاذيه بيوت من جانب آخر جاز القصر . ( قوله : ولا يزال على حكم السفر حتى ينوي إلخ ) ظاهر أن المراد حتى يدخل قرية أو بلدا فينوي ذلك ، وإلا فنية الإقامة بالقرية والبلد متحققة حال سفره إليها قبل دخولها لكن تركه لظهوره ولاستفادته من تعليل ما قبله بقوله ; لأن الإقامة تتعلق بدخولها ، وفيه أثر علي . قال البخاري تعليقا : وخرج علي رضي الله عنه فقصر وهو يرى البيوت ، فلما رجع قيل له هذه الكوفة قال لا حتى ندخلها ، يريد أنه صلى ركعتين والكوفة بمرأى منهم فقيل له إلخ ، وقد أسنده عبد الرزاق فصرح به قال : أخبرنا الثوري عن وفاء بن إياس الأسدي قال : خرجنا مع علي رضي الله عنه ونحن ننظر إلى الكوفة فصلى ركعتين ثم رجعنا فصلى ركعتين وهو ينظر إلى القرية ، فقلنا له : ألا تصلي أربعا ؟ قال : لا حتى ندخلها .

ثم بقاء حكم السفر من حين المفارقة ناويا للسفر إلى غاية نية الإقامة في بلد خمسة عشر يوما مقيد بأن يكون بعد استكمال مدة السفر وبأن لا يكون من دار الحرب وهو من العسكر قبل الفتح . وأيضا اشتراط النية مطلقا في ثبوت الإقامة ليس واقعا ، فإنه لو دخل مصره صار مقيما بمجرد دخوله بلا نية . والأحسن في الضابط لا يزال مسافرا حتى يعزم على الرجوع إلى بلده قبل استكمال مدة السفر ، ولو في المفازة ، أو يدخلها بعد الاستكمال ، أو يدخل غيرها فينوي الإقامة بها وحدها خمسة عشر يوما فصاعدا وليست من دار الحرب ، وهو من العسكر الداخلين ، والمفاهيم المخالفة للقيود كلها مذكورة في الكتاب مسائل مستقلة ، غير أنه لم يذكر فيه مسألة العزم على الرجوع ، وهي أنه إذا ثبت حكم السفر بالمفارقة ناويا للسفر ثم بدا له أن يرجع لحاجة أو لا فرجع صار مقيما في المفازة حتى أنه يصلي أربعا ، وقياسه أن لا يحل فطره في رمضان ، وإن كان بينه وبين بلده يومان ; لأنه انتقض السفر بنية الإقامة لاحتماله النقض إذ لم يستحكم إذا لم يتم علة ، وكانت الإقامة نقضا للعارض لا ابتداء علة الإتمام .

ولو قيل العلة مفارقة البيوت قاصدا مسيرة ثلاثة أيام [ ص: 35 ] لا استكمال سفر ثلاثة أيام بدليل ثبوت حكم السفر بمجرد ذلك فقد تمت العلة لحكم السفر فيثبت حكمه ما لم يثبت علة حكم الإقامة احتاج إلى الجواب . ( قوله : لأن السفر يجامعه اللبث ) يعني حقيقة اللبث مع قيام حقيقة السفر يوجد في كل مرحلة فلا يمكن اعتبار مطلقه . ( قوله : وهو مأثور عن ابن عباس وابن عمر ) أخرجه الطحاوي عنهما قالا : إذا قدمت بلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم خمس عشرة ليلة فأكمل الصلاة بها ، ، وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصرها . وروى ابن أبي شيبة : حدثنا وكيع ، حدثنا عمر بن ذر عن مجاهد ، أن ابن عمر كان إذا أجمع على إقامة خمسة عشر يوما أتم . وقال محمد في كتاب الآثار : حدثنا أبو حنيفة ، حدثنا موسى بن مسلم عن مجاهد عن عبد الله بن عمر قال : إذا كنت مسافرا فوطنت نفسك على إقامة خمسة عشر يوما فأتمم الصلاة ، وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصر .

( قوله : والأثر في مثله كالخبر وهو الظاهر ) احتراز عما سيذكره من الرواية عن أبي يوسف ; لأنه لا مدخل للرأي في المقدرات الشرعية ، وقد ينافيه قوله : فقدرناها بمدة الطهر ; لأنهما مدتان موجبتان ، فهذا قياس أصله مدة الطهر ، والعلة كونها موجبة ما كان ساقطا وهي ثابتة في مدة الإقامة وهي الفرع فاعتبرت كميتها بها وهو الحكم ، وإصلاحه بأنه بعد ثبوت التقدير بالخبر وجدناه على وفق صورة قياس ظاهر فرجحنا به المروي عن ابن عمر على المروي عن عثمان أنها أربعة أيام كما هو مذهب الشافعي وقد أخرج [ ص: 36 ] الستة عن أنس { خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فصلى ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة قيل : كم أقمتم بمكة ؟ قال : أقمنا بها عشرا } ولا يمكن حمله على أنهم عزموا قبل أربعة أيام ، غير أنهم اتفق لهم أنهم استمروا إلى عشر ; لأن الحديث إنما هو في حجة الوداع ، فتعين أنهم نووا الإقامة حتى يقضوا النسك . نعم كان يستقيم هذا لو كان في قصة الفتح ، لكن الكائن فيها { أنه صلى الله عليه وسلم أقام بمكة تسع عشرة يقصر الصلاة } رواه البخاري من حديث ابن عباس ، وحديث أنس في حجة الوداع قاله المنذري ، { فإنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة صبح رابعة من ذي الحجة وهو يوم الأحد ، وبات بالمحصب ليلة الأربعاء وفي مثل تلك الليلة اعتمرت عائشة من التنعيم ، ثم طاف صلى الله عليه وسلم طواف الوداع سحرا قبل الصبح من يوم الأربعاء ، وخرج صبيحته وهو اليوم الرابع عشر فتمت له عشر ليال } .

ولو قيل : تلك واقعة حال فيجوز كون الإقامة فيها كانت منوية منه صلى الله عليه وسلم في مكة ومنى فلا يصير له بذلك حكم الإقامة على رأيكم . قلنا : معلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن ليخرج من مكة إلى صبيحة يوم التروية فيكون عزمه على الإقامة بمكة إلى حينئذ ، وذلك أربعة أيام كوامل ، فينتفي به قولكم : إن أربعة أقل مدة الإقامة

التالي السابق


الخدمات العلمية