صفحة جزء
[ ص: 112 - 113 ] فصل في تكفينه ( السنة أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب إزار وقميص ولفافة ) لما روي { أنه عليه الصلاة والسلام كفن [ ص: 114 ] في ثلاثة أثواب بيض سحولية } ولأنه أكثر ما يلبسه عادة في حياته فكذا بعد مماته ( فإن اقتصروا على ثوبين جاز ، والثوبان إزار ولفافة ) وهذا كفن الكفاية لقول أبي بكر : اغسلوا ثوبي هذين وكفنوني فيهما ، ولأنه أدنى لباس [ ص: 115 ] الأحياء ، والإزار من القرن إلى القدم ، واللفافة كذلك ، والقميص من أصل العنق إلى القدم


[ ص: 113 ] ( فصل في التكفين ) هو فرض على الكفاية ، ولذا قدم على الدين ، فإن كان الميت موسرا وجب في ماله ، وإن لم يترك شيئا فالكفن على من تجب عليه نفقته إلا الزوج في قول محمد . وعند أبي يوسف يجب على الزوج ولو تركت مالا وعليه الفتوى ، كذا في غير موضع . وإذا تعدد من وجبت النفقة عليه على ما يعرف في النفقات فالكفن عليهم على قدر ميراثهم كما كانت النفقة واجبة عليهم . ولو كان معتق شخص ولم يترك شيئا وترك خالة موسرة يؤمر معتقه بتكفينه ; وقال محمد : على خالته ، وإن لم يكن له من تجب عليه نفقته فكفنه في بيت المال ، فإن لم يعط ظلما أو عجزا فعلى الناس ، ويجب عليهم أن يسألوا له ، بخلاف الحي إذا لم يجد ثوبا يصلي فيه لا يجب على الناس أن يسألوا له بل يسأل هو ; فلو جمع رجل الدراهم لذلك ففضل شيء منها إن عرف صاحب الفضل رده عليه ، وإن لم يعرف كفن محتاجا آخر به ، فإن لم يقدر على صرفها إلى الكفن يتصدق بها . ولو مات في مكان ليس فيه إلا رجل واحد ليس له إلا ثوب واحد ولا شيء للميت ; له أن يلبسه ولا يكفن به الميت ، وإذا نبش الميت وهو طري كفن ثانيا من جميع المال ، فإن كان قسم ماله فالكفن على الوارث دون الغرماء وأصحاب الوصايا ، فإن لم يكن فضل عن الدين شيء من التركة ، فإن لم يكن الغرماء قبضوا ديونهم بدئ بالكفن ، وإن كانوا قبضوا لا يسترد منهم شيء وهو في بيت المال . ولا يخرج الكفن عن ملك المتبرع به ، فلذا لو كفن رجلا ثم رأى الكفن مع شخص كان له أن يأخذه ، وكذا إذا افترس الميت سبع كان الكفن لمن كفنه لا للورثة

( قوله لما روي أنه صلى الله عليه وسلم كفن ) في الكتب الستة عن عائشة قالت : { كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة } وسحول : قرية باليمن ، وفتح السين هو المشهور ، وعن الأزهري الضم . فإن حمل على أن المراد أن لبس القميص من هذه الثلاثة بل خارج عنها كما قال مالك رحمه الله لزم كون السنة أربعة أثواب ، وهو مردود بما في البخاري عن أبي بكر قال لعائشة رضي الله عنها : { في كم ثوب كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت في ثلاثة أثواب } وإن عورض بما رواه ابن عدي في الكامل عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال { كفن [ ص: 114 ] النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب : قميص ، وإزار ، ولفافة } فهو ضعيف بناصح بن عبد الله الكوفي ، ولينه النسائي ، ثم إن كان ممن يكتب حديثه لا يوازي حديث عائشة . وما روى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي { أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في حلة يمانية وقميص } مرسل ، والمرسل وإن كان حجة عندنا لكم ما وجه تقديمه على حديث عائشة ، فإن أمكن أن يعادل حديث عائشة بحديث القميص بسبب تعدد طرقه منها الطريقان اللذان ذكرنا . وما أخرج عبد الرزاق عن الحسن البصري نحوه مرسلا . وما روى أبو داود عن ابن عباس قال { كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب : قميصه الذي مات فيه ، وحلة نجرانية } وهو مضعف بيزيد بن أبي زياد . ثم ترجح بعد المعادلة بأن الحال في تكفينه أكشف للرجال ثم البحث وإلا ففيه تأمل . وقد ذكروا { أنه عليه الصلاة والسلام غسل في قميصه الذي توفي فيه } فكيف يلبسونه الأكفان فوقه وفيه بللها ؟ والله سبحانه أعلم . والحلة في عرفهم مجموع ثوبين إزار ورداء ، وليس في الكفن عمامة عندنا ، واستحسنها بعضهم لما روي عن ابن عمر أنه كان يعممه ويجعل العذبة على وجهه وأحبها البياض ولا بأس بالبرود والعصب والكتان للرجال ، ويجوز للنساء الحرير والمزعفر والمعصفر اعتبارا للكفن باللباس في الحياة والمراهق في التكفين كالبالغ ، والمراهقة كالبالغة

( قوله ولأنه ) أي عدد الثلاث أكثر ما يلبسه عادة في حياته فكذا بعد مماته ، فأفاد أن أكثر ما يكفن فيه الرجل ثلاثة ، وصرح بأن أكثر ما يكفن فيه الرجل ثلاثة غير واحد من المصنفين . وقد يقال : مقتضاه أنه إذا مات ولم يترك سوى ثلاثة أثواب هو لابسها ليس غير وعليه ديون يعطى لرب الدين ثوب منها لأن الأكثر ليس بواجب بل هو المسنون ، وقد قالوا : إذا كان بالمال كثرة وبالورثة قلة فكفن السنة أولى من كفن الكفاية ، وهذا يقتضي أن كفن الكفاية وهو الثوبان جائز في حالة السعة ، ففي حال عدمها ووجود الدين ينبغي أن لا يعدل عنه تقديما للواجب ، وهو الدين على غير الواجب وهو الثلاثة ، لكنهم سطروا في غير موضع أنه لا يباع منه شيء للدين كما في حال الحياة إذا أفلس وله ثلاثة أثواب هو لابسها لا ينزع عنه شيء فيباع ولا يبعد الجواب

( قوله فإن اقتصروا على ثوبين جاز ) إلا أنه كان بالمال قلة وبالورثة كثرة فهو أولى ، وعلى القلب كفن السنة أولى ، وكفن الكفاية أقل ما يجوز عند الاختيار ، وفي حالة الضرورة بحسب ما يوجد

( قوله لقول أبي بكر ) روى الإمام أحمد في كتاب الزهد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله التميمي مولى الزبير بن العوام عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما احتضر رضي الله عنه تمثلت بهذا البيت :


أعاذل ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

فقال لها : يا بنية ليس كذلك ، ولكن قولي { وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد } ثم انظروا ثوبي هذين فاغسلوهما ثم كفنوني فيهما فإن الحي أحوج إلى الجديد .

وروى عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : " قال أبو بكر لثوبيه اللذين كان يمرض فيهما : اغسلوهما وكفنوني فيهما ، فقالت عائشة : ألا نشتري لك جديدا ؟ قال لا ، الحي أحوج إلى الجديد من الميت " . وفي الفروع : الغسيل والجديد سواء في الكفن . [ ص: 115 ] ذكره في التحفة . هذا وفي البخاري غير هذا عن عائشة أن أبا بكر قال لها { في كم كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة ، قال في أي يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت يوم الاثنين ، قال فأي يوم هذا ؟ قلت يوم الاثنين ، قال أرجو فيما بيني وبين الليل فنظر إلى ثوب عليه كان يمرض فيه به ردع من زعفران فقال : اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين وكفنوني فيها . قلت : إن هذا خلق ، قال الحي أحق بالجديد من الميت إنما هو المهلة ، فلم يتوف حتى أمسى من ليلة الثلاثاء ودفن قبل أن تصبح } . والردع بالمهملات الأثر ، والمهلة مثلث الميم : صديد الميت ، فإن وقع التعارض في حديث أبي بكر هذا حتى وجب تركه لأن سند عبد الرزاق لا ينقص عن سند البخاري ، فحديث ابن عباس في الكتب الستة في المحرم الذي وقصته ناقته قال فيه عليه الصلاة والسلام " وكفنوه في ثوبين " وفي لفظ " وفي ثوبيه " واعلم أن الجمع ممكن ، فلا يترك بأن يحمل ما في عبد الرزاق وغيره من حديث أبي بكر . على أنه ذكر بعض المتن دون كله بخلاف ما في البخاري ، وحينئذ فيكون حديث ابن عباس هو الشاهد ، لكن رواية ثوبيه تقتضي أنه لم يكن له معه غيرهما فلا يفيد كونه كفن الكفاية ، بل قد يقال : إنما كان ذلك للضرورة فلا يستلزم جواز الاقتصار على ثوبين حال القدرة على الأكثر ، إلا أنه خلاف الأولى كما هو كفن الكفاية ، والله سبحانه أعلم

( قوله والإزار من القرن إلى القدم ، واللفافة كذلك ) لا إشكال في أن اللفافة من القرن إلى القدم ، وأما كون الإزار كذلك ففي نسخ من المختار وشرحه اختلاف في بعضها : يقمص أولا وهو من المنكب إلى القدم ، ويوضع على الإزار وهو من القرن إلى القدم ، ويعطف عليه إلى آخره . وفي بعضها : يقمص ويوضع على الإزار وهو من المنكب إلى القدم ، ثم يعطف ، وأنا لا أعلم وجه مخالفة إزار الميت إزار الحي من السنة ، وقد قال عليه الصلاة والسلام في ذلك المحرم " كفنوه في ثوبيه " وهما ثوبا إحرامه إزاره ورداؤه ، ومعلوم أن إزاره من الحقو ، وكذا أعطى اللاتي غسلن ابنته حقوه على ما سنذكر ( قوله والقميص من أصل العنق ) بلا جيب ودخريص وكمين وكذا في الكافي ، وكونه بلا جيب بعيدا ، إلا أن يراد بالجيب الشق النازل على الصدر

التالي السابق


الخدمات العلمية