صفحة جزء
[ ص: 141 - 142 ] باب الشهيد ( الشهيد من قتله المشركون ، أو وجد في المعركة وبه أثر ، أو قتله المسلمون ظلما [ ص: 143 ] ولم يجب بقتله دية فيكفن ويصلى عليه ولا يغسل ) لأنه في معنى شهداء أحد . وقال عليه الصلاة والسلام فيهم { زملوهم بكلومهم ودمائهم ولا تغسلوهم } فكل من قتل بالحديدة ظلما وهو طاهر بالغ ولم يجب به عوض مالي فهو في معناهم فيلحق بهم ، والمراد بالأثر الجراحة لأنها دلالة القتل ، [ ص: 144 ] وكذا خروج الدم من موضع غير معتاد كالعين ونحوها ، والشافعي يخالفنا في الصلاة ويقول السيف محاء للذنوب [ ص: 145 ] فأغنى عن الشفاعة ، ونحن نقول : الصلاة على الميت لإظهار كرامته ، والشهيد أولى بها ، والطاهر عن الذنوب لا يستغني عن الدعاء كالنبي والصبي


( باب الشهيد ) وجه فضله ، وتأخيره ظاهر ، وسمي شهيدا إما لشهود الملائكة إكراما له ، أو لأنه مشهود له بالجنة ، ولشهوده أي حضوره حيا يرزق عند ربه على المعنى الذي يصح ( قوله الشهيد إلخ ) هذا تعريف للشهيد الملزوم للحكم [ ص: 143 ] المذكور : أعني عدم تغسيله ونزع ثيابه لا لمطلقه فإنه أعم من ذلك على ما سنذكر من أن المرتث وغيره شهيد . وهذا التعريف على قول الكل بناء على ما اختاره بعضهم من أن المختلف فيه من الأحكام والأوصاف يجتنب في الحد لكن يحتاج إلى قيد مدخل وهو قولنا : إلا ما يجب بشبهة الأبوة ، ولو أريد تصويره على رأي أبي حنيفة قيل كل مسلم مكلف لا غسل عليه قتل ظلما من أهل الحرب أو البغي أو قطاع الطريق بأي آلة كانت وبجارح من غيرهم ولم تجب بقتله دية بنفس القتل ولم يرتث فظلما مخرج للمقتول بحد أو قصاص أو افترسه سبع أو سقط عليه بناء أو سقط من شاهق أو غرق فإنه يغسل وإن كان شهيدا .

وأما إذا انفلتت دابة كافر فوطئت مسلما من غير سائق ، أو رمى مسلم إلى الكفار فأصاب مسلما ، أو نفرت دابة مسلم من سواد الكفار ، أو نفد المسلمون منهم فألجئوهم إلى خندق أو نار ونحوه فألقوا أنفسهم ، أو جعلوا حولهم الحسك فمشى عليها مسلم فمات به لم يكن شهيدا خلافا لأبي يوسف ، لأن فعله وفعل الدابة دون حامل يقطع النسبة إليهم .

أما لو طعنوهم حتى ألقوهم في نار أو ماء أو نفروا دابة فصدمت مسلما ، أو رموا نارا بين المسلمين فهبت بها ريح إلى المسلمين ، أو أرسلوا ماء فغرق به مسلم فإنهم يكونون شهداء اتفاقا ، لأن القتل مضاف إلى العدو تسبيبا . فإن قيل في الحسك ينبغي أن لا يغسل لأن جعله تسبيب للقتل . قلنا : ما قصد به القتل يكون تسبيبا وما لا فلا ، وهم قصدوا به الدفع لا القتل . وقولنا بجارح لا يخص الحديد بل يشمل النار والقصب . وقولنا بنفس القتل احتراز عما إذا وجب بالصلح عن دم العمد بعد ما وجب القصاص ، وعما إذا قتل الوالد ولده فالواجب الدية ، والولد شهيد لا يغسل في الرواية المختارة ، فإن موجب فعله ابتداء القصاص ثم ينقلب مالا لمانع الأبوة ، وباقي القيود ظاهرة ، وستخرج مما سيورد من الأحكام ( قوله قال عليه الصلاة والسلام في شهداء إلخ ) غريب تمامه .

وفي مسند الإمام أحمد { أنه عليه الصلاة والسلام أشرف على قتلى أحد فقال : إني شهيد على هؤلاء زملوهم بكلومهم ودمائهم } ا هـ . إلا أنه يستلزم عدم الغسل ، إذ مع الغسل لا يبقى .

وفي ترك غسل الشهيد أحاديث : منها ما أخرج البخاري وأصحاب السنن عن الليث بن سعد عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن جابر بن عبد الله { أنه عليه الصلاة والسلام كان يجمع بين الرجلين في قتلى أحد ويقول : أيهما أكثر أخذا للقرآن ، فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال : أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة ، وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلهم } زاد البخاري والترمذي ولم يصل عليهم قال [ ص: 144 ] النسائي : لا أعلم أحدا تابع الليث من أصحاب الزهري على هذا الإسناد ، ولم يؤثر عند البخاري تفرد الليث بالإسناد المذكور .

وأخرج أبو داود عن جابر قال { رمي رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات فأدرج في ثيابه كما هو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم } وسنده صحيح . وأخرج النسائي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { زملوهم بدمائهم فإنه ليس كلم يكلم في سبيل الله إلا يأتي يوم القيامة يدمى لونه لون الدم والريح ريح المسك } ( قوله وكذا خروج الدم من موضع غير معتاد كالعين ونحوها ) والحاصل أنه إذا مات ووجد ميتا في المعركة فلا يخلو إما أن يوجد به أثر أو لا ، فإن وجد فإن كان خروج دم من جراحة ظاهرة فهو شهيد أو غير ظاهرة فإن كان من موضع معتاد كالأنف والدبر والذكر لم نثبت شهادته فإن الإنسان قد يبول دما من شدة الخوف ، وإن كان من غير معتاد كالأذن والعين حكم بها وإن كان الأثر من غير رض ظاهر وجب أن يكون شهيدا ، وإن لم يكن به أثر أصلا لا يكون شهيدا لأن الظاهر أنه لشدة خوفه انخلع قلبه .

وأما إن ظهر من الفم فقالوا : إن عرف أنه من الرأس بأن يكون صافيا غسل ، وإن كان خلافه عرف أنه من الجوف فيكون من جراحة فيه فلا يغسل . وأنت علمت أن المرتقى من الجوف قد يكون علقا فهو سوداء بصورة الدم ، وقد يكون رقيقا من قرحة في الجوف على ما تقدم في طهارة الطهارة فلم يلزم كونه من جراحة حادثة بل هو أحد المحتملات ( قوله ويقول السيف محاء للذنوب ) ذكروه في بعض كتب الفقه حديثا ، وهو كذلك في صحيح ابن حبان ، وإنما معتمد الشافعي رحمه الله ما في البخاري عن جابر { أنه عليه الصلاة والسلام لم يصل على قتلى أحد } وهذا معارض بحديث عطاء بن أبي رباح { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد } أخرجه أبو داود في المراسيل ، فيعارض حديث جابر عندنا ، ثم يترجح بأنه مثبت وحديث جابر ناف ، ونمنع أصل المخالف في تضعيف المراسيل ، ولو سلم فعنده إذا اعتضد يرفع معناه .

قيل وقد روى الحاكم عن جابر قال { فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة حين فاء الناس من القتال ، فقال رجل : رأيته عند تلك الشجرة ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه ، فلما رآه ورأى ما مثل به شهق وبكى ، فقام رجل من الأنصار فرمى عليه بثوب ، ثم جيء بحمزة فصلى عليه ، ثم بالشهداء فيوضعون إلى جانب حمزة فيصلي عليهم ، ثم يرفعون ويترك حمزة حتى صلى على الشهداء كلهم } وقال صلى الله عليه وسلم { حمزة سيد الشهداء عند الله يوم القيامة } مختصر ، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه إلا أن في سنده مفضل بن صدقة أبا حماد الحنفي ، وهو وإن ضعفه يحيى والنسائي فقد قال الأهوازي : كان عطاء بن مسلم يوثقه ، وكان أحمد بن محمد بن شعيب يثني عليه ثناء تاما .

وقال ابن عدي : ما أرى به بأسا ، فلا يقصر الحديث عند درجة الحسن ، وهو حجة استقلالا فلا أقل من صلاحيته عاضدا لغيره . وأسند أحمد ، حدثنا عفان بن مسلم ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا عطاء بن السائب عن الشعبي عن ابن مسعود قال { كان النساء يوم أحد خلف المسلمين يجهزن على جرحى المشركين ، إلى أن قال : فوضع النبي صلى الله عليه وسلم حمزة وجيء برجل من الأنصار فوضع إلى جنبه ، فصلى عليه فرفع الأنصاري وترك حمزة ، ثم جيء بآخر فوضع إلى جنب حمزة فصلى عليه ثم رفع وترك حمزة [ ص: 145 ] صلى يومئذ عليه سبعين صلاة } وهذا أيضا لا ينزل عن درجة الحسن ، وعطاء بن السائب فيه ما تقدم في باب صلاة الكسوف ، وأرجو أن حماد بن سلمة ممن أخذ عنه قبل التغير ، فإن حماد بن زيد ممن ذكر أنه أخذ عنه قبل ذلك ، ووفاته تأخرت عن وفاة عطاء بنحو خمسين سنة ، وتوفي حماد بن سلمة قبل ابن زيد بنحو اثنتي عشرة سنة فيكون صحيحا ، وعلى الإبهام لا ينزل عن الحسن .

وأخرج الدارقطني عن ابن عباس قال { لما انصرف المشركون عن قتلى أحد ، إلى أن قال : ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة فكبر عليه عشرا ، ثم جعل يجاء بالرجل فيوضع وحمزة مكانه حتى صلى عليه سبعين صلاة ، وكانت القتلى يومئذ سبعين } وهذا أيضا لا ينزل عن الحسن ، ثم لو كان الكل ضعيفا ارتقى الحاصل إلى درجة الحسن ، ثم كان عاضد المراسيل سيد التابعين عطاء بن أبي رباح ، على أن الواقدي في المغازي قال : حدثني عبد ربه بن عبد الله عن عطاء عن ابن عباس فذكره .

وأسند في فتوح الشام : حدثني رويم بن عامر عن سعيد بن عاصم عن عبد الرحمن بن بشار عن الواقصي عن سيف مولى ربيعة بن قيس اليشكري قال : كنت في الجيش الذي وجهه أبو بكر الصديق مع عمرو بن العاص إلى أيلة وأرض فلسطين فذكر القصة . وفيها أنه قتل من المسلمين مائة وثلاثون وصلى عليهم عمرو بن العاص ومن معه من المسلمين ، وكان مع عمرو تسعة آلاف من المسلمين

( قوله ونحن نقول : الصلاة على الميت لإظهار كرامته ) لا يخفى أن المقصود الأصلي من الصلاة نفسها الاستغفار له والشفاعة والتكريم ، يستفاد إرادته من إيجاب ذلك على الناس فنقول : إذا أوجب الصلاة على الميت على المكلفين تكريما فلأن يوجبها عليهم على الشهيد أولى ، لأن استحقاقه للكرامة أظهر ( قوله كالنبي أو الصبي ) لو اقتصر على النبي كان أولى ، فإن الدعاء في الصلاة على الصبي لأبويه . هذا ولو اختلط قتلى المسلمين بقتلى الكفار أو موتاهم لم يصل عليهم إلا أن يكون موتى المسلمين أكثر فيصلي حينئذ عليهم وينوي أهل الإسلام فيها بالدعاء

التالي السابق


الخدمات العلمية