صفحة جزء
( وليس على الصبي والمجنون زكاة ) خلافا للشافعي رحمه الله فإنه يقول : هي غرامة مالية [ ص: 157 ] فتعتبر بسائر المؤن كنفقة الزوجات وصار كالعشر والخراج . ولنا أنها عبادة فلا تتأدى إلا بالاختيار تحقيقا لمعنى الابتلاء ، ولا اختيار لهما لعدم العقل ، [ ص: 158 ] بخلاف الخراج لأنه مؤنة الأرض . وكذا الغالب في العشر معنى المؤنة ومعنى العبادة تابع ، ولو أفاق في بعض السنة فهو بمنزلة إفاقته في بعض الشهر من الصوم . [ ص: 159 ] وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يعتبر أكثر الحول ولا فرق بين الأصلي والعارضي . وعن أبي حنيفة أنه إذا بلغ مجنونا يعتبر الحول من وقت الإفاقة بمنزلة الصبي إذا بلغ


( قوله هي غرامة ) حاصله إلحاق الزكاة بنفقة زوجة الصبي والمجنون وعشر أرضهما وخراجهما فإنه يجب في أرضهما العشر والخراج ، وكذا الأراضي الموقوفة على المساجد وجميع جهات البر والجامع أنها غرامة : أي حق مالي يلزم بسبب في مالهما فيخاطب الولي بدفعه ، ويدل على الحكم المذكور أيضا ما رواه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال : { ألا من ولي يتيما له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة } قلنا أما الحديث فضعيف ، قال الترمذي : إنما يروى الحديث من هذا الوجه وفي إسناده مقال لأن المثنى يضعف في الحديث .

قال صاحب التنقيح : قال مهنأ : سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال : ليس بصحيح . وللحديث طريقان آخران عند الدارقطني وهما [ ص: 157 ] ضعيفان باعترافه . وأما القياس فنمنع كون ما عينه تمام المناط فإنه منقوض بالذمي لا يؤخذ من ماله زكاة ، فلو كان وجوبها بمجرد كونها حقا ماليا يثبت للغير لصح أداؤها منه بدون الإسلام ، بل وأجبر عليه كما يجبر على دفع نفقة زوجته ونحو ذلك ، وحين لم يكن كذلك علم أنه اعتبر فيها وصف آخر لا يصح مع عدمه وهو وصف العبادة الزائل مع الكفر ، قال عليه الصلاة والسلام { بني الإسلام على خمس } وعد منها الزكاة كالصلاة والحج والصوم فتكون موضوعة عن الصبي ، قال عليه الصلاة والسلام { رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يعقل } .

رواه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه ، واعتبار تعلق خطاب الدفع الذي هو عبادة بالولي ابتداء لا بطريق النيابة ليدفع به هذا ، وما يقال المعتبر في الأداء نية الأصل لا النائب جائز لكن الكلام في ثبوت مفيد وقوع هذا الجائز ، إذ بمجرد الجواز لا يلزم الوجود شرعا فلا يفيد ما ذكروه المطلوب ولم يوجد ، فإن الحديث لم يثبت والقياس لم يصح كما سمعت ، على أنه لو صح لم يقتض إلا وجوب الأداء على الولي نيابة كما هو في المقيس عليه من نفقة الزوجة ، وهل يكون تصرف الإنسان في مال غيره إلا بطريق النيابة وبه يفارق تصرفه في مال نفسه .

وما روي عن عمر وابنه رضي الله عنهما وعائشة رضي الله عنها من القول بوجوبها في مالهما لا يستلزم كونه عن سماع ، إذ قد علمت إمكان الرأي فيه فيجوز كونه بناء عليه ، فحاصله قول صحابي عن اجتهاد عارضه رأي صحابي آخر . قال محمد بن الحسن في كتاب الآثار : أخبرنا أبو حنيفة ، حدثنا ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن مسعود قال : ليس في مال اليتيم زكاة . وليث كان أحد العلماء العباد ، وقيل اختلط في آخر عمره .

ومعلوم أن أبا حنيفة لم يكن ليذهب فيأخذ عنه في حال اختلاطه ويرويه وهو الذي شدد في أمر الرواية ما لم يشدده غيره على ما عرف .

وروي مثل قول ابن مسعود عن ابن عباس تفرد به ابن لهيعة ، وفي ابن لهيعة ما قدمناه غير مرة . وحاصل ما نقول في نفي الزكاة عنهما أن نفي العبادة عنهما بالنافي الثابت وعن وليهما ابتداء على العدم الأصلي لعدم سلامة ما يفيد ثبوته عليه ابتداء .

وأما إلحاقهما بالمكاتب في نفي الوجوب [ ص: 158 ] بجامع نقصان الملك لثبوت لازم النقصان من عدم جواز تبرعاتهما بل أدنى لعدم نفاذ تصرفاتهما فيه ، بخلاف المكاتب ففيه نظر ، فإن المؤثر في عدم الوجوب على المكاتب ليس عدم جواز التبرع ولا النقصان المسبب عنه ، بل النقصان المسبب عن كونه مديونا أو لأن ملكه باعتبار اليد فقط للتردد في قرار الملك لتجويز عجزه فيصير للسيد ملكا وهو ليس ملكا حقيقيا أصلا ، بخلاف الصبي والمجنون بقي إيراد العشر والخراج يتوجه على وجه الإلزام فلو تم واعترفنا بالخطإ في إيجابهما في أرضهما لم يضرنا في المتنازع فيه ، ثم جوابه عدم معنى العبادة في الخراج بل هي مؤنة محضة في الأرض وقصوره في العشر لأن الغالب فيه معنى المؤنة . ومعنى العبادة فيه تابع .

فالمالك ملكهما بمؤنتهما كما يملك العبد ملكا مصاحبا بها لأن المؤنة سبب بقائه فتثبت مع ملكه ، وكذا الخراج سبب بقاء الأراضي في أيد ملاكها لأن سببه بقاء الذب عن حوزة دار الإسلام وهو بالمقاتلة وبقاؤهم بمؤنتهم والخراج مؤنتهم باتفاق الصحابة على جعله في ذلك والعشر للفقراء لذبهم بالدعاء . قال عليه الصلاة والسلام { إنما تنصر هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم } الحديث .

والزكاة وإن كانت أيضا للفقراء لكن المقصود من إيجاب دفعها إليهم في حقه الابتلاء بالنص المفيد لكونها عبادة محضة وهو { بني الإسلام } الحديث . وفي حقهم سد حاجتهم والمنظور إليه في عشر الأراضي الثاني لأنه لم يوجد فيه صريح يوجب كونه عبادة محضة ، وقد عهد تقرير المؤنة في الأرض فيكون محل النظر على المعهود ، غير أن خصوص المصرف وهم الفقراء يوجب فيه معنى العبادة ، وهذا القدر لا يستلزم سوى أدنى ما يتحقق به معناها وهو بكونه تبعا فكان كذلك ( قوله ولو أفاق ) أي المجنون . اعلم أن الوجوب مطلقا لا يسقط بالعجز عن الأداء للعجز عن استعمال العقل ، بل إذا كان حكمه وهو وجوب الأداء يتعذر متعلقه وهو الأداء امتثالا مع عدم العقل بشرط تذكره نحو أن يكون من العبادات المحضة فإن المقصود

[ ص: 159 ] من إيجابها إيجاب نفس الفعل ابتلاء ليظهر العاصي من المطيع ، وهذا لا يتحقق إلا عن اختيار صحيح وهو لا يمكن بدون العقل ، وإنما انتفى الوجوب لانتفاء حكمه لأنه المقصود منه وإن وجد السبب كما ينتفي لانتفاء محله ، بخلاف ما المقصود منه المال ووصوله إلى معين كالخراج والنفقات وضمان المتلفات والعشر فإنه لا يتعذر معه حكمه وهو الإيصال فإنه مما يحصل بالنائب فأمكن ثبوت حكم الوجوب مطلقا : أعني وجوب الأداء دون عقل ، بخلاف العبادات المحضة فإن اختيار النائب ليس هو اختيار المستنيب فلا يظهر بفعله طاعة من عليه إلا إذا كان استنابه عن اختيار صحيح ولا يكون ذلك إلا بالعقل ، ثم ما يتعذر الأداء فيه عند عدم العقل إنما يسقط الوجوب بشرطين أن يكون الجنون أصليا وهو المتصل بالصبي إن بلغ مجنونا أو عارضيا طال ، وأن يكون تبقية الوجوب يستلزم الحرج في فعل المأمور به ، أما الأول فلأن العارض إذا لم يطل عد عدما شرعا كالنوم لا يسقط الوجوب ، ويجب على النائم القضاء وذلك لأنه يتوقع زواله في كل ساعة ، بخلاف الطويل في العادة .

والجنون ينقسم إلى مديد وقصير فألحق المديد بالصبا فيسقط معه أصل الوجوب ، والقصير بالنوم بجامع أن كلا عذر يعجز عن الأداء زال قبل الامتداد .

وأما الثاني فلأن الوجوب لفائدته وهي الأداء أو القضاء ، فما لم يتعذر الأول ويثبت طريق تعذر الثاني لا تنتفي الفائدة فلا ينتفي هو ، وطريق تعذره أن يستلزم حرجا وهو بالكثرة ولا نهاية لها ، فاعتبرنا الدخول في حد التكرار ، فلذا قدرناه في الصلاة بالست على ما مر في باب صلاة المريض ، وفي الصوم بأن يستوعب الشهر .

وفي الزكاة أن يستغرق الحول عند محمد ، وهو رواية عن أبي يوسف وأبي حنيفة وهو الأصح لأن الزكاة تدخل في حد التكرار بدخول السنة الثانية ، وفيه نظر ، فإن التكرار بخروج الثانية لا بدخولها لأن شرط الوجوب أن يتم الحول ، فالأولى أن المعتبر في الزكاة والصوم نفس وقتهما ووقتهما مديد فاعتبر نفسه ، فقلنا إنما يسقط باستيعاب الجنون وقتهما ، حتى لو كان مفيقا في جزء من الشهر وجن في باقي أيامه لزمه قضاء كله . وفي الزكاة في السنة كلها .

وروى هشام بن أبي يوسف أن امتداد الجنون بوجوده في أكثر السنة ونصف السنة ملحق بالأقل لأن كل وقتها الحول لكنه مديد جدا فقدرنا به ، والأكثر يقام مقام الكل فقدرنا به تيسيرا ، فإن اعتبار أكثره أخف [ ص: 160 ] على المكلف من اعتبار الكل لأنه أقرب إلى السقوط ، والنصف ملحق بالأقل .

ثم إن محمدا لا يفرق بين الأصلي وهو المتصل بزمن الصبا بأن جن قبل البلوغ فبلغ مجنونا ، والعارض بأن بلغ عاقلا ثم جن فيما ذكرنا من الحكم وهو ظاهر الرواية ، وخص أبو يوسف الحكم المذكور بالعارض لأنه الملحق بالعوارض ، أما الأصلي فحكمه حكم الصبا عنده فيسقط الوجوب وإن قل ، ويعتبر ابتداء الحول من وقت الإفاقة كما يعتبر ابتداءه من وقت البلوغ ويجب بعد الإفاقة ما بقي من الصوم لا ما مضى من الشهر ، ولا يجب ما مضى من الصلاة مما هو أقل من يوم وليلة بعد البلوغ ، وقيل على العكس .

وروي عن أبي حنيفة أيضا كما ذكر المصنف وصاحب الإيضاح . وجه الفرق أن المجنون قبل البلوغ في وقت نقصان الدماغ لآفة مانعة له عن قبول الكمال مبقية له على ضعفه الأصلي فكان أمرا أصليا فلا يمكن إلحاقه بالعدم كالصبي ، بخلاف الحاصل بعد البلوغ فإنه معترض على المحل الكامل بلحوقه آفة عارضة فيمكن إلحاقه بالعدم عند انتفاء الحرج كالنوم .

وقال محمد : الجنون مطلقا عارضي لأن الأصل في الجبلة السلامة بل كانت متحققة في الوجود وفواتها إنما يكون بعارض والجنون يفوتها فكان عارضا ، والحكم في العارض أنه يمنع الوجوب إذا امتد وإلا فلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية