صفحة جزء
[ ص: 183 ] ( فصل في الخيل )

( إذ كانت الخيل سائمة ذكورا وإناثا فصاحبها بالخيار : إن شاء أعطى عن كل فرس دينارا ، وإن شاء قومها وأعطى عن كل مائتي درهم خمسة دراهم ) وهذا عند أبي حنيفة ، وهو قول زفر ، وقالا : لا زكاة في الخيل لقوله عليه الصلاة والسلام { ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة } وله قوله عليه الصلاة والسلام { في كل فرس سائمة دينار أو عشرة دراهم } وتأويل ما روياه فرس الغازي ، وهو المنقول عن زيد بن ثابت . [ ص: 184 ] والتخيير بين الدينار والتقويم مأثور عن عمر [ ص: 185 ] ( وليس في ذكورها منفردة زكاة ) لأنها لا تتناسل ( وكذا في الإناث المنفردات في رواية ) وعنه الوجوب فيها [ ص: 186 ] لأنها تتناسل بالفحل المستعار بخلاف الذكور ، وعنه أنها تجب في الذكور المنفردة أيضا ( ولا شيء في البغال والحمير ) لقوله عليه الصلاة والسلام { لم ينزل علي فيهما شيء } والمقادير تثبت سماعا ( إلا أن تكون للتجارة ) لأن الزكاة حينئذ تتعلق بالمالية كسائر أموال التجارة ، والله أعلم .


( فصل في الخيل )

في فتاوى قاضي خان قالوا : الفتوى على قولهما ، وكذا رجح قولهما في الأسرار ، وأما شمس الأئمة وصاحب التحفة فرجحا قول أبي حنيفة رحمه الله ، وأجمعوا أن الإمام لا يأخذ صدقة الخيل جبرا ، وحديث { ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة } رووه في الكتب الستة ، وزاد مسلم { إلا صدقة الفطر } ( قوله وتأويل ما روياه فرس الغازي ) لا شك أن هذه الإضافة للفرس المفرد لصاحبها في قولنا فرسه وفرس زيد كذا ، وكذا يتبادر منه الفرس [ ص: 184 ] الملابس للإنسان ركوبا ذهابا ومجيئا عرفا ، وإن كان لغة أعم من ذلك ، والعرف أملك ، ويؤيد هذه الإرادة قوله في عبده : ولا شك أن العبد للتجارة تجب فيه الزكاة ، فعلم أنه لم يرد النفي عن عموم العبد بل عبد الخدمة .

وقد روي ما يوجب حمله على هذا المحمل لو لم تكن هاتان القرينتان العرفية واللفظية ، وهو ما في الصحيحين في حديث مانعي الزكاة بطوله ، وفيه { الخيل ثلاثة : هي لرجل أجر ، ولرجل ستر ، ولرجل وزر } .

وساق الحديث إلى قوله { فأما التي هي له ستر فرجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك الرجل ستر } الحديث ، فقوله ولا في رقابها بعد قوله ولم ينس حق الله في ظهورها يرد تأويل ذلك بالعارية لأن ذلك مما يمكن على بعده في ظهورها ، فعطف رقابها ينفي إرادة ذلك ، إذ الحق الثابت في رقاب الماشية ليس إلا الزكاة وهو في ظهورها حمل منقطعي الغزاة والحاج ونحو ذلك .

هذا هو الظاهر الذي يجب البقاء معه ، ولا يخفى أن تأويلنا في الفرس أقرب من هذا بكثير لما حفه من القرينتين ولأنه تخصيص العام ، وما من عام إلا وقد خص بخلاف حمل الحق الثابت لله في رقاب الماشية على العارية ، ولا يجوز حمله على زكاة التجارة { لأنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الحمير بعد الخيل فقال : لم ينزل علي فيها شيء } فلو كان المراد في الخيل زكاة التجارة لم يصح نفيها في الحمير ، وما قيل إنه كان واجبا ثم نسخ بدليل ما روى الترمذي والنسائي عن أبي عوانة عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة } وله طريق آخر عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي .

قال الترمذي : سألت محمدا عن هذا الحديث فقال : كلاهما عندي عن أبي إسحاق يحتمل أن يكون روي عنهما ، والعفو لا يكون إلا عن شيء لازم فممنوع ، بل يصدق أيضا مع ترك الأخذ من الابتداء تفضلا مع القدرة عليه ، فمن قدر على الأخذ من أحد وكان محقا في الأخذ غير ملوم فيه فتركه مع ذلك تكرما ورفقا به صدق معه ذلك ويقدم ما في الصحيحين للقوة ، وقد رأينا هذا الأمر قد تقرر في زمن عمر فكيف يكون منسوخا ؟ قال ابن عبد البر : روى فيه جويرية عن مالك حديثا صحيح أخرجه الدارقطني عن جويرية عن مالك عن الزهري أن السائب بن يزيد أخبره قال : رأيت أبي يقيم الخيل ثم يدفع صدقتها إلى عمر .

وروى عبد الرزاق عن ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار أن جبير بن يعلى أخبره أنه سمع يعلى بن أمية يقول : ابتاع عبد الرحمن بن أمية أخو يعلى بن أمية من رجل من أهل اليمن فرسا أنثى بمائة قلوص ، فندم البائع فلحق بعمر ، فقال : غصبني يعلى وأخوه فرسا لي ، فكتب إلى يعلى أن الحق بي ، فأتاه فأخبره الخبر فقال : [ ص: 185 ] إن الخيل لتبلغ هذا عندكم ما علمت أن فرسا يبلغ هذا فنأخذ عن كل أربعين شاة ولا نأخذ من الخيل شيئا ، خذ من كل فرس دينارا ، فقرر على الخيل دينارا دينارا .

وروي أيضا عن ابن جريج : أخبرني ابن أبي حسين أن ابن شهاب أخبره أن عثمان كان يصدق الخيل ، وأن السائب بن يزيد أخبره أن كان يأتي عمر بن الخطاب بصدقة الخيل : قال ابن شهاب : لا أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سن صدقة الخيل .

وقال محمد بن الحسن في كتاب الآثار : أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي أنه قال : في الخيل السائمة التي يطلب نسلها ، إن شئت في كل فرس دينارا وعشرة دراهم ، وإن شئت فالقيمة ، فيكون في كل مائتي درهم خمسة دراهم في كل فرس ذكر أو أنثى ، فقد ثبت أصلها على الإجمال في كمية الواجب في حديث الصحيحين وثبتت الكمية ، وتحقق الأخذ في زمن الخليفتين عمر وعثمان من غير نكير بعد اعتراف عمر بأنه لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر على ما أخرج الدارقطني عن حارثة بن مضرب قال : جاء ناس من أهل الشام إلى عمر فقالوا : إنا قد أصبنا أموالا خيلا ورقيقا وإنا نحب أن تزكيه ، فقال : ما فعله صاحباي قبلي فأفعله أنا ثم استشار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا حسن ، وسكت علي فسأله فقال : هو حسن لو لم تكن جزية راتبة يؤخذون بها بعدك ، فأخذ من الفرس عشرة دراهم ثم أعاده قريبا منه بذلك السند والقصة .

وقال فيه : فوضع على كل فرس دينارا ، ففي هذا أنه استشارهم فاستحسنوه ، وكذا استحسنه علي بشرط شرطه وهو أن لا يؤخذون به بعده ، وقد قلنا بمقتضاه إذ قلنا ليس للإمام أن يأخذ صدقة سائمة الخيل جبرا ، فإن أخذ الإمام هو المراد بقوله يؤخذون بها مبنيا للمفعول ، إذ يستحيل أن يكون استحسانه مشروطا بأن لا يتبرعوا بها لمن بعده من الأئمة لأنه ما على المحسنين من سبيل ، وهذا حينئذ فوق الإجماع السكوتي .

فإن قيل : استحسانهم إنما هو لقبولها منهم إذا تبرعوا بها وصرفها إلى المستحقين لا للإيجاب . قلنا رواية ، فوضع على كل فرس دينارا مرتبا على استحسانهم ، وما قدمناه من قول عمر ليعلى : خذ من كل فرس دينارا فقرر على كل دينارا يوجب خلاف ما قلت ، وغاية ما في ذلك أن ذلك هو مبدأ اجتهادهم ، وكأنهم والله أعلم رأوا أن ما قدمنا من حديث مانعي الزكاة يفيد الوجوب حيث أثبت في رقابها حقا لله ، ورتب على الخروج منه كونها له حينئذ سترا يعني من النار ، هذا هو المعهود من كلام الشارع كقوله في عائل البنات { كن له سترا من النار } وغيره ، ولأنه لا معنى لكون المراد سترا في الدنيا بمعنى ظهور النعمة ، إذ لا معنى لترتيب ذلك على عدم نسيان حق الله في رقابها فإنه ثابت ، وإن نسي فثبت الوجوب وعدم أخذه عليه الصلاة والسلام لأنه لم يكن في زمانه أصحاب الخيل السائمة من المسلمين بل أهل الإبل ، وما تقدم إذ أصحاب هذه إنما هم أهل المدائن والدشت والتراكمة ، وإنما فتحت بلادهم في زمن عمر وعثمان ، ولعل ملحظهم في خصوص تقدير الواجب ما روي عن جابر من قوله عليه الصلاة والسلام { في كل فرس دينار } كما ذكره في الإمام عن الدارقطني بناء على أنه صحيح في نفس الأمر ولو لم يكن صحيحا على طريقة المحدثين ، إذ لا يلزم من عدم الصحة على طريقهم إلا عدمها ظاهرا دون نفس الأمر ، على أن الفحص عن مأخذهم لا يلزمنا إذ يكفي العلم بما اتفقوا عليه من ذلك ( قوله وليس في ذكورها إلخ ) في كل من الذكور المنفردة والإناث المنفردة روايتان ، والراجح في الذكور عدم الوجوب وفي الإناث الوجوب .

التالي السابق


الخدمات العلمية