صفحة جزء
هو الذي أخرج الذين كفروا [2] أي بمحمد صلى الله عليه وسلم ( من أهل الكتاب ) من اليهود وهم بنو النضير ( من ديارهم لأول الحشر ) صرفت أولا لأنه مضاف ، ولو كان مفردا كان ترك الصرف فيه أولى على أنه نعت ، ومن جعله غير نعت صرفه ( ما ظننتم أن يخرجوا ) "أن" في موضع نصب بظننتم ، وهي تقوم مع صلتها مقام المفعولين عند النحويين إلا محمد بن يزيد فإن أبا الحسن حكى لنا عنه أن المفعول الثاني محذوف ، وكذا القول في ( وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ) أي لم يظنوا من قولهم : ما كان هذا في حسباني أي في ظني ، ولا يقال : في حسابي؛ لأنه لا معنى له ههنا ، ويجوز أن يكون معنى "لم يحتسبوا" لم [ ص: 386 ] يعلموا ، وكذا قيل في قول الناس : حسيبه الله أي العالم بخبره والذي يجازيه الله جل وعز ، وقيل معنى قولك : حسيبك الله كافي إياك الله . من قولهم أحسبه الشيء ، إذا كفاه ، وقيل : حسيبك أي محاسبك مثل شريب بمعنى مشارب ، وقيل : حسيبك أي مقتدر عليك ، ومنه وكان الله على كل شيء حسيبا .

( وقذف في قلوبهم الرعب ) ومن قال : في قلوبهم الرعب جاء به على الأصل ( يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ) ويخربون على التكثير ، وقد حكى سيبويه أن فعل يكون بمعنى أفعل كما قال :


ومن لا يكرم نفسه لا يكرم



( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) أي فاتعظوا واستدلوا على صدق النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله جل وعز ناصره لما يريكم في أعدائه وبصدق ما أخبركم به . واشتقاقه من عبر إلى كذا إذا جاز إليه ، والعبرة هي المتجاوزة من العين إلى الخد . قال الأصمعي : وقولهم : فلان عبر أي يفعل أفعالا يورث بها أهله العبرة وفي معنى ( يا أولي الأبصار ) قولان : أحدهما أنه من بصر [ ص: 387 ] العين والآخر أنه من بصر القلب . قال أبو جعفر : وهذا أولى بالصواب ، لأن الاعتبار إنما يكون بالقلب ، وهو الاتعاظ والاستدلال بما مر . فقد قيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم بهذا أنه يكون فكان على ما وصف فيجب أن تعتبروا بهذا وغيره ، كما قال جل وعز ( لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ) فكان كما قال ، وقال جل ذكره ( سيصلى نارا ذات لهب ) فكان ذلك وقال ( ولن يتمنوه أبدا ) فلم يتمنه أحد منهم ، وكذا ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) فقالوا ذلك ، وكذا ( وهم من بعد غلبهم سيغلبون ) كذا قوله صلى الله عليه وسلم لعمار : "تقتلك الفئة الباغية" ، وقوله عليه السلام لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم كتب :

"من محمد رسول الله" فساموه محوها فاستعظم ذلك علي رضي الله عنه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "إنك ستسام مثلها"
فكان ذلك على ما قال ، وكذلك قوله في ذي الثدية "ومن ينجو من الخوارج" فكان [ ص: 388 ] الأمر كما قال ، وكذلك قوله في كلاب الحوأب قولا محددا ، وكذلك قوله في فتح المدينة البيضا وفي فتح مصر ، وأوصى بأهلها خيرا فهذا كله مما يعتبر به وقال جل وعز ( والله يعصمك من الناس ) فعصمه حتى مات على فراشه ، وقال ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ) فاستخلف ممن خوطب بهذا أربعة أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم ، وكان هذا موافقا لقوله صلى الله عليه "الخلافة بعدي ثلاثون" ومما يعتبر به تمثيلاته التي لا تدفع ، منها حديث أبي رزين العقيلي أنه قال : يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى وما آية ذلك في خلقه؟ فقال : يا أبا رزين أما مررت بواد أهلك محلا ثم مررت به يهتز خضرا فكذلك يحيي الله الموتى وكذلك آيته تعالى في خلقه" فهذا التشبيه الباهر الذي لا يلحق ، ولذلك قوله في تمثيل الميت بالنائم وبعثه باليقظة . وهذا أشكل شيء بشيء ، فبهذا يعتبر أولو الأبصار .

[ ص: 389 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية