معاني القرآن وإعرابه للزجاج

الزجاج - أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج

صفحة جزء
[ ص: 139 ] ومن سورة " المائدة "

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله - جل وعز - : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ؛ خاطب الله - جل وعز - جميع المؤمنين بالوفاء بالعقود التي عقدها الله عليهم؛ والعقود التي يعقدها بعضهم على بعض؛ على ما يوجبه الدين؛ فقال : يا أيها الذين آمنوا ؛ أي : يا أيها الذين صدقوا النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أوفوا بالعقود؛ و " العقود " : العهود؛ يقال : " وفيت بالعهد " ؛ و " أوفيت " ؛ و " العقود " ؛ واحدها " عقد " ؛ وهي أوكد العهود؛ يقال : " عهدت إلى فلان في كذا وكذا " ؛ تأويله : " ألزمته ذلك " ؛ فإنما قلت : " عاقدته " ؛ أو " عقدت عليه " ؛ فتأويله أنك ألزمته ذلك باستيثاق؛ وقال بعضهم : " أوفوا بالعقود " : أي : بما كان عقد بعضكم على بعض في الجاهلية؛ نحو الموالاة؛ ونحو قوله : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ؛ والمواريث تنسخ العقود في باب المواريث؛ يقال : " عقدت الحبل؛ والعهد؛ فهو معقود " ؛ قال الحطيئة :


قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا



[ ص: 140 ] تأويله أنهم يوفون عهودهم بالوفاء بها؛ ويقال : " أعقدت العسل ونحوه؛ فهو معقد؛ وعقيد " ؛ وروى بعضهم : " عقدت العسل؛ والكلام؛ أعقدت " ؛ قال الشاعر :


وكأن ربا أو كحيلا معقدا ...     حش الوقود به جوانب قمقم



وقوله - جل وعز - : أحلت لكم بهيمة الأنعام ؛ قال بعضهم : " بهيمة الأنعام " : الظباء؛ والبقر الوحشية؛ والحمر الوحشية؛ و " الأنعام " ؛ في اللغة؛ تشتمل على الإبل؛ والبقر؛ والغنم؛ فالتأويل - والله أعلم - : أحلت لكم بهيمة الأنعام؛ أي : أحلت لكم الإبل؛ والبقر؛ والغنم؛ والوحش؛ والدليل على أن الأنعام مشتملة على ما وصفنا قوله - عز وجل - : ومن الأنعام حمولة وفرشا ؛ فالحمولة : الإبل التي تحمل؛ والفرش : صغار الإبل؛ قال : ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ؛ ثم قال : ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين ؛ وهذا مردود على قوله : [ ص: 141 ] وهو الذي أنشأ جنات معروشات ؛ وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشا؛ ثم ذكر " ثمانية أزواج " ؛ بدلا من قوله : ومن الأنعام حمولة وفرشا ؛ والسورة تدعى سورة " الأنعام " ؛ فبهيمة الأنعام هذه؛ وإنما قيل لها : " بهيمة الأنعام " ؛ لأن كل حي لا يميز فهو بهيمة؛ وإنما قيل له : " بهيمة " ؛ لأنه أبهم عن أن يميز؛ فأعلم الله - عز وجل - أن الذي أحل لنا مما أبهم هذه الأشياء.

وقوله : إلا ما يتلى عليكم ؛ موضع " ما " ؛ نصب بـ " إلا " ؛ وتأويله : أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم من الميتة؛ والدم؛ والموقوذة؛ والمتردية؛ والنطيحة؛ غير محلي الصيد ؛ أي : أحلت لكم هذه؛ لا محلين الصيد وأنتم حرم؛ وقال أبو الحسن الأخفش : انتصب " غير محلي الصيد " ؛ على قوله : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ؛ كأنه قيل : " أوفوا بالعقود غير محلي الصيد " ؛ وقال بعضهم : يجوز أن تكون " ما " ؛ في موضع رفع؛ على أنه يذهب إلى أنه يجوز " جاء إخوتك إلا زيد " ؛ وهذا عند البصريين باطل؛ لأن المعنى عند هذا القائل : " جاء إخوتك وزيد " ؛ كأنه يعطف بها كما يعطف بـ " لا " ؛ ويجوز عند البصريين " جاء الرجال إلا زيد " ؛ على معنى " جاء الرجال غير زيد " ؛ على أن تكون صفة للنكرة؛ أو ما قارب النكرة من الأجناس؛ وقوله : وأنتم حرم ؛ أي : محرمون؛ وأحد " الحرم " : " حرام " ؛ يقال : " رجل حرام " ؛ و " قوم حرم " ؛ قال الشاعر : [ ص: 142 ]

فقلت لها فيئي إليك فإنني ...     حرام وإني بعد ذاك لبيب

؛ أي : ملب؛ وقوله : إن الله يحكم ما يريد ؛ أي : الخلق له - عز وجل -؛ يحل منه ما يشاء؛ لمن يشاء؛ ويحرم ما يريد.

التالي السابق


الخدمات العلمية