معاني القرآن وإعرابه للزجاج

الزجاج - أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج

صفحة جزء
[ ص: 50 ] وقوله - عز وجل -: صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ؛ صفة لقوله - عز وجل -: الصراط المستقيم ؛ ولك في عليهم ضم الهاء؛ وكسرها؛ تقول: " الذين أنعمت عليهم " ؛ و " عليهم " ؛ وعلى هاتين اللغتين معظم القراء ، ويجوز: " عليهمو " ؛ بالواو؛ والأصل في هذه الهاء - في قولك: " ضربتهو يا فتى " ؛ و " مررت بهو يا فتى " ؛ أن يتكلم بها في الوصل بواو ، فإذا وقفت قلت: " ضربته " ؛ و " مررت به " ؛ وزعم سيبويه أن الواو زيدت على الهاء في المذكر؛ كما زيدت الألف في المؤنث في قولك: " ضربتها " ؛ و " مررت بها " ، ليستوي المذكر؛ والمؤنث؛ في باب الزيادة؛ والقول في هذه الواو عند أصحاب سيبويه ؛ والخليل ؛ أنها إنما زيدت لخفاء الهاء؛ وذلك أن الهاء تخرج من أقصى الحلق ، والواو بعد الهاء؛ أخرجتها من الخفاء إلى الإبانة ، فلهذا زيدت ، وتسقط في الوقف ، كما تسقط الضمة؛ والكسرة؛ في قولك: " أتاني زيد " ، و " مررت بزيد " ، إلا أنها واو وصل؛ فلا تثبت؛ لئلا يلتبس الوصل بالأصل؛ فإذا قلت: " مررت بهو يا فتى " ؛ فإن شئت قلت: " مررت بهي " ؛ فقلبت الواو ياء؛ لانكسار ما قبلها ، أعني الياء المنكسرة؛ فإن قال قائل: بين الكسرة والواو الهاء ، قيل: الهاء ليست بحاجز حصين ، فكأن الكسرة تلي الواو ، ولو كانت الهاء حاجزا حصينا ما زيدت الواو عليها؛ وقد قرئ: " فخسفنا بهي وبدارهي الأرض " ، و " بهو وبدارهو الأرض " ، من قراءة أهل الحجاز ؛ فإن قلت: " فلان عليه مال " ، فلك فيه أربعة أوجه: إن شئت كسرت [ ص: 51 ] الهاء؛ وإن شئت أثبت الياء ، وكذلك في الضم؛ إن شئت ضممت الهاء؛ وإن شئت أثبت الواو ، فقلت: " عليه " ؛ و " عليهي " ، و " عليه " ؛ و " عليهو مال " ؛ وأما قوله - عز وجل -: " إن تحمل عليه يلهث " ؛ وقوله: " إلا ما دمت عليه قائما " ؛ فالقراءة بالكسر بغير ياء في " عليه " ؛ وهي أجود هذه الأربعة؛ ولا ينبغي أن يقرأ بما يجوز إلا أن تثبت به رواية صحيحة؛ أو يقرأ به كثير من القراء ، فمن قال: " عليه مال " ؛ بالضم؛ فالأصل فيه: " عليهو مال " ، ولكن حذف الواو لسكونها؛ وسكون الياء؛ واجتماع ثلاثة أحرف متجانسة ، وترك الضمة لتدل على الواو ، ومن قال: " عليهو " ؛ فإنما أثبت الواو على الأصل ، ويجعل الهاء حاجزا ، وهذا أضعف الوجوه؛ لأن الهاء ليست بحاجز حصين ، ومن قال: " عليه مال " ؛ فإنما قدر " عليهي مال " ؛ فقلب الواو ياء للياء التي قبلها ، ثم حذف الياء لسكونها؛ وسكون الياء التي قبلها ، كما قلبت الواو في قوله: " مررت به يا فتى " ؛ ومن قال: " عليهي مال " ؛ فالحجة في إثبات الياء كالحجة في إثبات الواو؛ ألا ترى أن " عليهي مال " ؛ أجود من " عليهو مال " ؟ وأجود اللغات ما في القرآن؛ وهو قوله: " عليه قائما " ؛ والذي يليه في الجودة: " عليه مال " ؛ بالضم ، ثم يلي هذا " عليهي مال " ؛ ثم " عليهو مال " ؛ بإثبات الواو ، وهي أردأ الأربعة؛ فأما قولهم: " عليهم " ؛ فأصل الهاء فيما وصفنا أن تكون معها ضمة ، إلا أن الواو قد سقطت ، وإنما تكسر الهاء للياء التي قبلها ، وإنما يكون ما قبل ميم [ ص: 52 ] الإضمار مضموما ، فإنما أتت هذه الضمة لميم الإضمار ، وقلبت كسرة للياء؛ وإنما كثر " عليهم " ؛ في القرآن؛ و " عليهم " ؛ ولم يكثر " عليهمي " ؛ و " عليهمو " ؛ لأن الضمة التي على الهاء من " عليهم " ؛ للميم ، فهي أقوى في الثبوت ، ألا ترى أن هذه الضمة تأتي على الميم في كل ما لحقته الميم؛ نحو " عليكم " ، و " بكم " ، و " منكم " ؟ ولا يجوز في " عليكم " ؛ " عليكم " ؛ بكسر الكاف؛ لأن الكاف حاجز حصين بين الياء والميم ، فلا تقلب كسرة ، وقد روي عن بعض العرب: " عليكم " ؛ و " بكم " ؛ بكسر الكاف؛ ولا يلتفت إلى هذه الرواية ، وأنشدوا:


وإن قال مولاهم على جل حادث ... من الدهر ردوا بعض أحلامكم ردوا



بكسر الكاف؛ وهذه لغة شاذة ، والرواية الصحيحة: " فضل أحلامكم " ، وعلى الشذوذ أنشد ذلك سيبويه ؛ فأما " عليهمو " ؛ فأصل الجمع أن يكون بواو ، ولكن الميم استغني بها عن الواو ، والواو تثقل على ألسنتهم ، حتى إنه ليس في أسمائهم اسم آخره واو [ ص: 53 ] قبلها حركة ، فلذلك حذفت الواو ، فأما من قرأ: " عليهمو ولا الضالين " ؛ فقليل؛ ولا ينبغي أن يقرأ إلا بالكثير؛ وإن كان قد قرأ به قوم؛ فإنه أقل من الحذف بكثير في لغة العرب. وقوله - عز وجل -: غير المغضوب عليهم ؛ فيخفض " غير " ؛ على وجهين: على البدل من " الذين " ؛ كأنه قال: " صراط غير المغضوب عليهم " ، ويستقيم أن يكون غير المغضوب عليهم ؛ من صفة " الذين " ، وإن كان " غير " ؛ أصله أن يكون في الكلام صفة للنكرة ، تقول: " مررت برجل غيرك " ، فغيرك صفة ل " رجل " ، كأنك قلت: " مررت برجل آخر " ؛ ويصلح أن يكون معناه: " مررت برجل ليس بك " ؛ وإنما وقع ههنا صفة ل " الذين " ؛ لأن " الذين " ؛ ههنا ليس بمقصود قصدهم؛ فهو بمنزلة قولك: " إني لأمر بالرجل مثلك فأكرمه " ؛ ويجوز نصب " غير " ؛ على ضربين: على الحال؛ وعلى الاستثناء؛ فكأنك قلت: " إلا المغضوب عليهم " ، وحق " غير " ؛ من الإعراب في الاستثناء النصب؛ إذا كان ما بعد " إلا " منصوبا ، فأما الحال فكأنك قلت فيها: " صراط الذين أنعمت عليهم لا مغضوبا عليهم " . وقوله - عز وجل -: ولا الضالين ؛ [ ص: 54 ] فإنما عطف ب " الضالين " ؛ على " المغضوب عليهم " ، وإنما جاز أن يقع " لا " ؛ في قوله (تعالى): ولا الضالين ؛ لأن معنى " غير " ؛ متضمن معنى النفي ، يجيز النحويون: " أنت زيدا غير ضارب " ، لأنه بمنزلة قولك: " أنت زيدا لا تضرب " ، ولا يجيزون: " أنت زيدا مثل ضارب " ، لأن زيدا من صلة " ضارب " ؛ فلا يتقدم عليه؛ وقول القائلين؛ بعد الفراغ من " الحمد " ، ومن الدعاء " آمين " ؛ فيه لغتان؛ تقول العرب: " أمين " ، و " آمين " ، قال الشاعر:


تباعد عني فطحل إذ دعوته ...     أمين فزاد الله ما بيننا بعدا



وقال الشاعر أيضا:


يا رب لا تسلبني حبها أبدا ...     ويرحم الله عبدا قال آمينا



ومعناه: اللهم استجب ، وهما موضوعان في موضع اسم الاستجابة؛ كما أن قولنا: " صه " ؛ موضوع موضع " سكوتا " ؛ وحقهما من الإعراب الوقف؛ لأنهما بمنزلة الأصوات؛ إذ كانا غير مشتقين من فعل؛ إلا أن النون فتحت فيهما لالتقاء الساكنين ، فإن قال قائل: ألا كسرت النون لالتقاء الساكنين؟ قيل: الكسرة تثقل بعد الياء ، ألا ترى أن " أين " ، و " كيف " ؛ فتحتا لالتقاء الساكنين؛ ولم تكسرا لثقل الكسرة بعد الياء؟

التالي السابق


الخدمات العلمية