معاني القرآن وإعرابه للزجاج

الزجاج - أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج

صفحة جزء
[ ص: 55 ] ومن سورة " البقرة "

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله - تبارك وتعالى -: الم ؛ زعم أبو عبيدة ؛ معمر بن المثنى ؛ أنها حروف الهجاء؛ افتتاح كلام؛ وكذلك " المر " ؛ و " المص " ؛ وزعم أبو الحسن الأخفش أنها افتتاح كلام؛ ودليل ذلك أن الكلام الذي ذكر قبل السورة قد تم؛ وزعم قطرب أن: " الم " ؛ و " المص " ؛ و " المر " ؛ و " كهيعص " ؛ و " ق " ؛ [ ص: 56 ] و " يس " ؛ و " نون " ؛ حروف المعجم؛ ذكرت لتدل على أن هذا القرآن مؤلف من هذه الحروف المقطعة؛ التي هي حروف " أ ب ت ث " ؛ فجاء بعضها مقطعا؛ وجاء تمامها مؤلفا؛ ليدل القوم الذين نزل عليهم القرآن أنه بحروفهم التي يعقلونها؛ لا ريب فيه.

ويروى عن الشعبي أنه قال: لله في كل كتاب سر؛ وسره في القرآن حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور؛ ويروى عن ابن عباس ثلاثة أوجه في " الم " ؛ وما أشبهها ، فوجه منها أنه قال: أقسم الله بهذه الحروف أن هذا الكتاب الذي أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الكتاب الذي عنده - عز وجل -؛ لا شك فيه ، والقول الثاني عنه أن " الر " ؛ و " حم " ؛ و " نون " ؛ اسم للرحمن - عز وجل -؛ مقطع في اللفظ؛ موصول في المعنى؛ والثالث عنه أنه قال: " الم " ؛ معناه: " أنا الله أعلم " ، و " الر " ؛ معناه: " أنا الله أرى " ، [ ص: 57 ] و " المص " ؛ معناه: " أنا الله أعلم وأفصل " ؛ و " المر " ؛ معناه: " أنا الله أعلم وأرى " ؛ فهذا جميع ما انتهى إلينا من قول أهل اللغة؛ والنحويين؛ في معنى " الم " ؛ وجميع ما انتهى إلينا من أهل العلم بالتفسير.

ونقول في إعراب " الم " ؛ و " الر " ؛ و " كهيعص " ؛ وما أشبه هذه الحروف: هذا باب التهجي. [ ص: 58 ] [ ص: 59 ] هذا باب حروف التهجي

وهي: الألف؛ والباء؛ والتاء؛ والثاء؛ وسائر ما في القرآن منها؛ فإجماع النحويين أن هذه الحروف مبنية على الوقف؛ لا تعرب؛ ومعنى قولنا: " مبنية على الوقف " : أنك تقدر أن تسكت على كل حرف منها ، فالنطق: " ألف لام ميم ذلك... " ؛ والدليل على أنك تقدر السكت عليها جمعك بين ساكنين في قولك: " لام " ؛ وفي قولك: " ميم " ؛ والدليل على أن حروف الهجاء مبنية على السكت؛ كما بني العدد على السكت؛ أنك تقول فيها بالوقف؛ مع الجمع بين ساكنين ، كما تقول إذا عددت: " واحد؛ اثنان؛ ثلاثه؛ أربعه... " ؛ ولولا أنك تقدر السكت لقلت: " ثلاثة " ، بالتاء؛ كما تقول: " ثلاثا يا هذا " ؛ فتصير الهاء تاء مع التنوين؛ واتصال الكلام؛ وحقها من الإعراب أن تكون سواكن الأواخر ، زعم سيبويه أنك أردت أن المعجم حروف يحكى بها ما في الأسماء المؤلفة من الحروف؛ فجرى [ ص: 60 ] مجرى ما يحكى به؛ نحو " غاق " ؛ و " غاق يا فتى " ، إنما حكى صوت الغراب؛ والدليل أيضا على أنها موقوفة قول الشاعر:


أقبلت من عند زياد كالخرف ... تخط رجلاي بخط مختلف



تكتبان في الطريق لام الف

كأنه قال: " لام ألف " ، بسكون " لام " ؛ ولكنه ألقى حركة همزة " ألف " ؛ على الميم؛ ففتحها؛ قال أبو إسحاق : وشرح هذه الحروف وتفسيرها أنها ليست تجرى مجرى الأسماء المتمكنة ، والأفعال المضارعة التي يجب لها الإعراب؛ وإنما هي تقطيع الاسم المؤلف الذي لا يجب الإعراب فيه؛ إلا مع كماله؛ فقولك: " جعفر " ؛ لا يجب أن تعرب منه الجيم؛ ولا العين؛ ولا الفاء؛ ولا الراء؛ دون تكميل الاسم؛ فإنما هي حكايات وضعت على هذه الحروف؛ فإن أجريتها مجرى الأسماء؛ وحدثت عنها؛ قلت: " هذه كاف حسنة " ؛ وهذا كاف حسن " ؛ وكذلك سائر حروف المعجم؛ فمن قال: " هذه كاف " ؛ أنث لمعنى الكلمة؛ ومن ذكر فلمعنى الحرف؛ والإعراب وقع فيها لأنك تخرجها من باب الحكاية؛ قال الشاعر:


كافا وميمين وسينا طاسما



[ ص: 61 ] وقال أيضا:


كما بينت كاف تلوح وميمها



ذكر " طاسما " ؛ لأنه جعله صفة للسين؛ وجعل السين في معنى الحرف؛ وقال: " تلوح " ؛ فأنث الكاف؛ ذهب بها مذهب الكلمة؛ قال الشاعر - يهجو النحويين؛ وهو يزيد بن الحكم -:

إذا اجتمعوا على ألف وواو ...     وياء لاح بينهم جدال



فأما إعراب " أبي جاد " ؛ و " هوز " ؛ و " حطي " ؛ فزعم سيبويه أن هذه معروفات الاشتقاق في كلام العرب؛ وهي مصروفة؛ تقول: " علمت أبا جاد " ؛ و " انتفعت بأبي جاد " ؛ وكذلك " هوز " ؛ تقول: " نفعني هوز " ؛ و " انتفعت بهوز " ؛ وكذلك " حطي " ؛ وهن مصروفات منونات؛ فأما " كلمون " ؛ و " سعفص " ؛ و " قريشيات " ؛ فأعجميات؛ تقول: " هذه كلمون يا هذا " ؛ و " تعلمت كلمون " ؛ و " انتفعت بكلمون " ؛ وكذلك " سعفص " ؛ فأما " قريشيات " ؛ فاسم للجمع؛ مصروفة بسبب الألف والتاء؛ تقول: " هذه [ ص: 62 ] قريشيات يا هذا " ؛ وعجبت من قريشيات يا هذا " .

ولقطرب قول آخر في " الم " ؛ زعم أنه يجوز؛ لما لغا القوم في القرآن فلم يتفهموه؛ حين قالوا: " لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه " ؛ أنزل ذكر هذه الحروف؛ فسكتوا لما سمعوا الحروف؛ طمعا في الظفر بما يحبون؛ ليفهموا - بعد الحروف - القرآن وما فيه؛ فتكون الحجة عليهم أثبت إذا جحدوا بعد تفهم؛ وتعلم.

قال أبو إسحاق : والذي أختاره من هذه الأقوال التي قيلت في قوله - عز وجل -: " الم " ؛ بعض ما يروى عن ابن عباس - رحمة الله عليه -؛ وهو أن المعنى: " الم " : " أنا الله أعلم " ؛ وأن كل حرف منها له تفسيره؛ والدليل على ذلك أن العرب تنطق بالحرف الواحد تدل به على الكلمة التي هو منها؛ قال الشاعر:


قلنا لها قفي قالت قاف ...     لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف



فنطق بقاف فقط؛ يريد قالت: " أقف " ؛ وقال الشاعر أيضا:

نادوهم أن ألجموا ألاتا ...     قالوا جميعا كلهم ألا فا



[ ص: 63 ] تفسيره: " نادوهم أن ألجموا؛ ألا تركبون؟ قالوا جميعا: ألا فاركبوا " ؛ فإنما نطق بتاء؛ وفاء؛ كما نطق الأول بقاف؛ وأنشد بعض أهل اللغة للقيم بن سعد بن مالك :


إن شئت أشرفنا كلانا فدعا ...     الله ربا جهده فأسمعا


بالخير خيرات وإن شرا فآ ...     ولا أريد الشر إلا أن تآ



وأنشد النحويون:


بالخير خيرات وإن شرا فا ...     ولا أريد الشر إلا أن تا



يريدون: " إن شرا فشر؛ ولا أريد الشر إلا أن تشاء " ؛ أنشد جميع البصريين ذلك؛ فهذا الذي أختاره في هذه الحروف؛ والله أعلم بحقيقتها.

فأما " ص " ؛ فقرأ الحسن : " صاد والقرآن " ؛ فكسر الدال؛ فقال أهل [ ص: 64 ] اللغة: معناه " صاد القرآن بعملك " ؛ أي: تعمده؛ وسقطت الياء للأمر؛ ويجوز أن تكون كسرت الدال لالتقاء الساكنين؛ إذا نويت الوصل؛ وكذلك قرأ عبد الله بن أبي إسحاق: " صاد والقرآن " ؛ وقرأ أيضا: " قاف والقرآن المجيد " ؛ فالكسر في مذهب ابن أبي إسحاق لالتقاء الساكنين؛ وقرأ عيسى بن عمر : " صاد والقرآن " ؛ بفتح الدال؛ وكذلك قرأ: " نون والقلم " ؛ و " قاف والقرآن " ؛ بالفتح أيضا؛ لالتقاء الساكنين؛ قال سيبويه : إذا ناديت " أسحار " - و " الأسحار " : اسم نبت؛ مشدد الراء -؛ قلت في ترخيمه: " يا أسحار أقبل " ؛ ففتحت لالتقاء الساكنين؛ كما اخترت الفتح في قولك: " عض يا فتى " ؛ فإتباع الفتحة الفتحة كإتباع الألف الفتحة؛ ويجوز: " يا أسحار أقبل " ؛ فتكسر لالتقاء الساكنين؛ وقال أبو الحسن الأخفش : يجوز أن يكون " صاد " و " قاف " ؛ و " نون " ؛ أسماء للسور؛ منصوبة؛ إلا أنها لا تصرف؛ كما لا تصرف جملة أسماء المؤنث؛ والقول الأول - أعني التقاء الساكنين؛ والفتح؛ والكسر من أجل التقائها - أقيس؛ لأنه يزعم أنه ينصب هذه الأشياء؛ كأنه قال: " أذكر صاد " ؛ وكذلك يجيز في " حم " ؛ [ ص: 65 ] و " طس " ؛ النصب؛ و " ياسين " أيضا؛ على أنها أسماء للسور؛ ولو كان قرئ بها لكان وجهه الفتح؛ لالتقاء الساكنين؛ فأما " كهيعص " ؛ فلا تبين فيها النون مع الصاد في القراءة؛ وكذلك " حم عسق " ؛ لا تبين فيها النون مع السين؛ قال الأخفش وغيره من النحويين: لم تبين النون لقرب مخرجها من السين؛ والصاد؛ فأما " نون والقلم " ؛ فالقراءة فيها تبيين النون مع الواو التي في " والقلم " ؛ وبترك التبيين؛ إن شئت بينت؛ وإن شئت لم تبين؛ فقلت " نون والقلم " ؛ لأن النون بعدت قليلا عن الواو.

وأما قوله - عز وجل - " الم الله " ؛ ففي فتح الميم قولان؛ أحدهما لجماعة من النحويين؛ وهو أن هذه الحروف مبنية على الوقف؛ فيجب بعدها قطع ألف الوصل؛ فيكون الأصل: " أ ل م الله لا إله إلا هو " ؛ ثم طرحت فتحة الهمزة على الميم؛ وسقطت الهمزة؛ كما تقول: " واحد؛ اثنان " ؛ وإن شئت قلت: " واحد اثنان " ؛ فألقيت كسرة " اثنين " ؛ على الدال؛ وقال قوم من النحويين: لا يسوغ في اللفظ أن ينطق بثلاثة أحرف سواكن؛ فلا بد من فتحة الميم في " الم الله " ؛ لالتقاء الساكنين؛ يعني الميم؛ واللام؛ والتي بعدها؛ وهذا القول صحيح؛ لا يمكن في اللفظ غيره. [ ص: 66 ] فأما من زعم أنه إنما ألقي حركة الهمزة فيجب أن يقرأ: " الم الله " ؛ وهذا لا أعلم أحدا قرأ به إلا ما ذكر عن الرؤاسي؛ فأما من رواه عن عاصم؛ فليس بصحيح الرواية؛ وقال بعض النحويين: لو كانت محركة لالتقاء الساكنين لكانت مكسورة؛ وهذا غلط لو فعلنا في التقاء الساكنين إذا كان الأول منهما ياء؛ لوجب أن تقول: " كيف زيد؟ " ؛ و " أين زيد؟ " ؛ وهذا لا يجوز؛ وإنما وقع الفتح لثقل الكسرة بعد الياء؛

التالي السابق


الخدمات العلمية