صفحة جزء
[ ص: 295 ] ائتلاف اللفظ مع اللفظ وائتلافه مع المعنى الأول: أن تكون الألفاظ يلائم بعضها بعضا، بأن يقرن الغريب بمثله. والمتداول بمثله، رعاية الفاصلة لحسن الجواب والمناسبة. والثاني: أن تكون ألفاظ الكلام ملائمة للمعنى المراد، فإن كان فخما كانت ألفاظه فخمة، أو جزلا فجزلة، أو غريبا فغريبة، أو متداولة فمتداولة، أو متوسطا بين الغرابة والاستعمال فكذلك. فالأول كقوله تعالى: تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا . أتى بأغرب ألفاظ القسم وهي التاء، فإنها أقل استعمالا، وأبعد من أفهام العامة بالنسبة إلى الباء والواو، وبأغرب صيغ الأفعال التي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار، فإن " تزال " أقرب إلى الأفهام، وأكثر استعمالا منها، وبأغرب ألفاظ الهلاك وهو الحرض، فاقتضى حسن الوضع في النظم أن تجاور كل لفظة بلفظة من جنسها في الغرابة توخيا لحسن الجوار ورغبة في ائتلاف المعاني بالألفاظ، ولتتعادل الألفاظ في الوضع، وتتناسب في النظم. ولما أراد غير ذلك قال: وأقسموا بالله جهد أيمانهم . فأتى بجميع الألفاظ متداولة لا غرابة فيها. ومن الثاني قوله تعالى: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار . لما كان الركون إلى الظالم، وهو الميل إليه، والاعتماد عليه، دون مشاركته في الظلم. وجب أن يكون العقاب عليه دون العقاب على الظالم، فأتى بالمس الذي هو دون الإحراق والاصطلام. وقوله: لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت . أتى بلفظ الاكتساب المشعر بالكلفة والمبالغة في جانب السيئة لثقلها. وكذا قوله: فكبكبوا فيها هم والغاوون . فإنه أبلغ من كبوا للإشارة إلى أنهم يكبون كبا عنيفا فظيعا وهم يصطرخون فيها [ ص: 296 ] . فإنه أبلغ من يصرخون للإشارة إلى أنهم يصرخون صراخا منكرا خارجا عن الحد المعتاد. أخذ عزيز مقتدر . فإنه أبلغ من قادر، للإشارة إلى زيادة التمكن في القدرة، وأنه لا راد له ولا معقب. ومثل ذلك: " واصطبر " ، فإنه أبلغ من اصبر. و " الرحمن " أبلغ من الرحيم، فإنه مشعر باللطف والرفق، كما أن الرحمن مشعر بالفخامة والعظمة. ومنه الفرق بين سقى وأسقى، فإن سقى لما لا كلفة معه في السقيا، ولذا أورده تعالى في شراب الجنة، فقال: وسقاهم ربهم شرابا طهورا . وأسقى لما فيه كلفة، ولهذا أورده تعالى في شراب أهل الدنيا، فقال: وأسقيناكم ماء فراتا . لأسقيناهم ماء غدقا . لأن السقي في الدنيا لا يخلو من كلفة أبدا. الاستدراك والاستثناء شرط كونهما من البديع أن يتضمنا ضربا من المحاسن زائدا على ما يدل عليه المعنى اللغوي، مثال الاستدراك قوله تعالى: قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا . فإنه لو اقتصر على قوله: لم تؤمنوا لكان منفرا لهم، لأنهم ظنوا الإقرار بالشهادتين من غير اعتقاد إيمانا، فأوجبت البلاغة ذكر الاستدراك، ليعلم أن الإيمان موافقة القلب اللسان، وإن انفرد اللسان بذلك يسمى إسلاما، ولا يسمى إيمانا. وزاد ذلك أيضا بقوله: ولما يدخل الإيمان في قلوبكم . فلما تضمن الاستدراك إيضاح ما عليه ظاهر الكلام من الإشكال عد من المحاسن. ومثال الاستثناء: فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، فإن الإخبار عن هذه المدة بهذه الصيغة يمهد عذر نوح في دعائه على قومه بدعوة أهلكتهم عن آخرهم، إذ لو قيل: فلبث فيهم تسعمائة وخمسين عاما لم يكن فيه من التهويل ما في الأول، لأن لفظة الألف في الأول أول ما يطرق السمع [ ص: 297 ] فيشتغل بها عن سماع بقية الكلام. وإذا جاء الاستثناء لم يبق له بعد ما تقدمه وقع يزيل ما حصل عنده من ذكر الألف. الاقتناص ذكره ابن فارس: وهو أن يكون كلام في سورة مقتنصا من كلام في سورة أخرى أو تلك السورة، كقوله تعالى: وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين . والآخرة دار ثواب لا عمل فيها، فهذا مقتنص من قوله: ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا . ومنه: ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين . مأخوذ من قوله: فأولئك في العذاب محضرون . وقوله: ويوم يقوم الأشهاد .، - مقتنص من أربع آيات. لأن الأشهاد أربعة: الملائكة في قوله: وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد . ، والأنبياء في قوله: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا . وأمة محمد في قوله: لتكونوا شهداء على الناس . والأعضاء في قوله: يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم . وقوله: يوم التناد . قرئ مخففا ومشددا، فالأول مأخوذ من قوله: ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار . والثاني من قوله: يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه . الإبدال هو إقامة بعض الحروف مقام بعض، وجعل منه ابن فارس: فانفلق . أي فانفرق، ولذا قال: فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم . فالراء واللام يتعاقبان. [ ص: 298 ] وعن الخليل - في قوله: فجاسوا خلال الديار . أنه أريد فحاسوا، فقامت الجيم مقام الحاء، وقد قرئ بالحاء أيضا. وجعل منه الفارسي: إني أحببت حب الخير ، أي الخيل. وجعل منه أبو عبيدة: إلا مكاء وتصدية .، أي تصددة.

تأكيد المدح بما يشبه الذم قال ابن أبي الإصبع: هو في غاية العزة في القرآن. قال: ولم أجد منه إلا آية واحدة، وهي قوله: قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله . فإن الاستثناء بعد الاستفهام الخارج مخرج التوبيخ على ما عابوا به المؤمنين من الإيمان - يوهم أن ما يأتي بعده مما يوجب أن ينقم على فاعله، مما يذم به، فلما أتى بعد الاستثناء ما يوجب مدح فاعله كان الكلام متضمنا تأكيد المدح بما يشبه الذم. قلت: ونظيرها قوله: وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله . وقوله: الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله . فإن ظاهر الاستثناء أن ما بعده حق يقتضي الإخراج. فلما كان صفة مدح تقتضي الإكرام لا الإخراج كان تأكيدا للمدح بما يشبه الذم. وجعل منه التنوخي في الأقصى القريب: لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما . استثنى سلاما سلاما الذي هو ضد اللغو والتأثيم، فكان ذلك مؤكدا لانتفاء اللغو والتأثيم.

[ ص: 299 ] التفويف هو إتيان المتكلم بمعان شتى، من المدح، والوصف، وغير ذلك من الفنون. كل فن في جملة منفصلة عن أختها، مع تساوي الجمل في الزنة، ويكون في الجمل المتوسطة والطويلة والقصيرة. فمن الطويلة: الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين . ومن المتوسطة: تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي . قال ابن أبي الإصبع: ولم يأت المركب من الجمل القصيرة في القرآن. التقسيم هو استيفاء أقسام الشيء الموجودة، لا الممكنة عقلا، نحو: هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا . إذ ليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق والطمع في الأمطار، ولا ثالث لهذين القسمين. وقوله: فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ، فإن العالم لا يخلو من هذه الأقسام الثلاثة، إما عاص ظالم لنفسه. وإما سابق مبادر للخيرات، وإما متوسط بينهما مقتصد فيهما. ونظيرها: وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون . وكذا قوله تعالى: له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك . استوفى أقسام الزمان، ولا رابع. [ ص: 300 ] وقوله: والله خلق كل دابة من ماء . استوفى أقسام الخلق في المشي. وقوله: الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم . استوفى جميع هيئات الذاكرين. وقوله: يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا . استوفى جميع أحوال المتزوجين، ولا خامس لها. التدبيج هو أن يذكر المتكلم ألوانا يقصد التورية بها والكناية، قال ابن أبي الإصبع: كقوله: ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود . قال: المراد بذلك - والله أعلم - الكناية عن المشتبه والواضح من الطرق، لأن الجادة البيضاء هي الطريق التي كثر السلوك عليها جدا، وهي أوضح الطرق وأبينها، ودونها الحمراء، ودون الحمراء السوداء، كأنها في الخفاء والالتباس ضد البيضاء في الوضوح والظهور. ولما كانت هذه الألوان الثلاثة في الظهور للعين طرفين وواسطة، فالطرف الأعلى في الظهور والبياض، والطرف الأدنى في الخفاء والسواد، والأحمر بينهما على وضع الألوان في التركيب، وكانت ألوان الجبال لا تخرج عن هذه الألوان الثلاثة، والهداية بكل علم نصب للهداية منقسما هذه القسمة - أتت الآية الكريمة منقسمة كذلك، فحصل فيها التدبيج وصحة التقسيم.

التنكيت هو أن يقصد المتكلم إلى شيء بالذكر دون غيره، مما يسد مسده، لأجل نكتة في المذكور ترجح مجيئه على سواه، كقوله تعالى: وأنه هو رب الشعرى . - خص الشعرى بالذكر دون غيرها من النجوم، وهو تعالى رب [ ص: 301 ] كل شيء، لأن العرب كان ظهر فيهم رجل يعرف بابن أبي كبشة عبد الشعرى، ودعا خلقا إلى عبادتها، فانزل الله: وأنه هو رب الشعرى . ، التي ادعيت فيها الربوبية. التجريد هو أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله، مبالغة في كمالها فيه، نحو: لي من فلان صديق حميم. جرد من الرجل الصديق آخر مثله متصفا بصفة الصداقة. ونحو: مررت بالرجل الكريم، والنسمة المباركة. جردوا من الرجل الكريم آخر مثله متصفا بصفة البركة، وعطفوه عليه، كأنه غيره، وهو هو. ومن أمثلته في القرآن: لهم فيها دار الخلد . ليس المعنى أن الجنة فيها غير دار الخلد، ودار الخلد، بل نفسها دار الخلد، فكأنه جرد من الدار دارا - ذكره في المحتسب. وجعل منه: يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، على أن المراد بالميت النطفة. قال الزمخشري: وقرأ عبيد بن عمير: فكانت وردة كالدهان بالرفع، بمعنى حصلت منها وردة. قال: وهو من التجريد. وقرئ أيضا: يرثني ويرث من آل يعقوب . قال ابن جني: هذا هو التجريد، وذلك أنه يريد: وهب لي من لدنك وليا يرثني منه وارث من آل يعقوب، وهو الوارث نفسه، فكأنه جرد منه وارثا. التعديد هو إيقاع الألفاظ المفردة على سياق واحد، وأكثر ما يوجد في الصفات. كقوله: هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس . الآية ، وقوله: التائبون العابدون الحامدون . وقوله: مسلمات مؤمنات . [ ص: 302 ] الترديد هو أن يورد أوصاف الموصوف على ترتيبها في الخلقة الطبيعية، ولا يدخل فيها وصفا زائدا، ومثله عبد الباقي اليمني بقوله: هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا . وبقوله: فكذبوه فعقروها . التضمين يطلق على أشياء: أحدها: إيقاع لفظ موقع غيره، لتضمنه معناه، وهو نوع من المجاز تقدم فيه. الثاني: حصول معنى فيه من غير ذكر له باسم هو عبارة عنه، وهذا نوع من الإيجاز تقدم أيضا. الثالث: تعلق ما بعد الفاصلة بها، وهذا مذكور في نوع الفواصل. الرابع: إدراج الغير في أثناء الكلام لقصد تأكيد المعنى، أو ترتيب النظم. وهذا هو النوع البديعي. قال ابن أبي الإصبع: ولم أظفر في القرآن بشيء منه إلا في موضعين تضمنا فصلين من التوراة والإنجيل: قوله: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس . وقوله: محمد رسول الله . الآية ومثله ابن النقيب وغيره بإبداع حكايات المخلوقين في القرآن، كقوله تعالى - حكاية عن الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء . وعن المنافقين: أنؤمن كما آمن السفهاء .. وقالت اليهود، وقالت النصارى. قال: وكذلك ما أودع فيه من اللغات الأعجمية. [ ص: 303 ] الجناس هو تشابه اللفظين في اللفظ، قال في كنز البراعة: وفائدته الميل إلى الإصغاء إليه، فإن مناسبة الألفاظ تجدد ميلا وإصغاء إليها، ولأن اللفظ المشترك إذا حمل على معنى، ثم جاء والمراد به آخر، كان للنفس تشوق إليه. وأنواع الجناس كثيرة، منها التام: بأن يتفقا في أنواع الحروف وأعدادها وهيئتها، كقوله تعالى: ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة . قيل: ولم يقع منه في القرآن سواه. واستنبط شيخ الإسلام ابن حجر موضعا آخر، وهو: يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار . وأنكر بعضهم كون الآية الأولى من الجناس، وقال: الساعة في الموضعين بمعنى واحد، والتجنيس أن يتفق اللفظ ويختلف المعنى ولا يكون أحدهما حقيقة والآخر مجازا، بل يكونان حقيقتين، وزمان القيامة وإن طال لكنه عند الله في حكم الساعة الواحدة، فإطلاق الساعة على القيامة مجاز، وعلى الآخر حقيقة، وبذلك يخرج الكلام عن التجنيس، كما لو قلت: لقيت حمارا وركبت حمارا - تعني بليدا. ومنها: المصحف، ويسمى جناس الخط، بأن تختلف الحروف في النقط. كقوله: والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين . ومنها: المحرف، بأن يقع الاختلاف في الحركات. ، كقوله: ولقد أرسلنا فيهم منذرين فانظر كيف كان عاقبة المنذرين . ولقد اجتمع التصحيف والتحريف في قوله تعالى: وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا . [ ص: 304 ] ومنها: الناقص، بأن يختلفا في عدد الحروف، سواء كان الحرف المزيد أولا أو وسطا أو آخرا، كقوله: والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق . كلي من كل الثمرات . ومنها: المذيل بأن يزيد أحدهما أكثر من حرف في الآخر أو الأول، وسمى بعضهم الثاني بالمتوج، كقوله:وانظر إلى إلهك . ولكنا كنا مرسلين . من آمن بالله . إن ربهم بهم يومئذ لخبير . مذبذبين بين ذلك . ومنها: المضارع، وهو أن يختلفا بحرف مقارب في المخرج، سواء كان في الأول أو الوسط أو الآخر، كقوله تعالى: وهم ينهون عنه وينأون عنه . ومنها: اللاحق، بأن يختلفا بحرف غير مقارب فيه، كقوله تعالى: ويل لكل همزة لمزة . وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد . ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون . وإذا جاءهم أمر من الأمن . ومنها: المرفو، وهو ما تركب من كلمة وبعض أخرى، كقوله: جرف هار فانهار . ومنها: اللفظي، بأن يختلفا بحرف مناسب للآخر مناسبة لفظية، كالضاد والظاء، كقوله: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة . ومنها: تجنيس القلب، بأن يختلفا في ترتيب الحروف، نحو: فرقت بين بني إسرائيل . ومنها: تجنيس الاشتقاق، بأن يجتمعا في أصل الاشتقاق، ويسمى المقتضب. نحو: فروح وريحان . فأقم وجهك للدين القيم . وجهت وجهي . [ ص: 305 ] ومنها: تجنيس الإطلاق، بأن يجتمعا في المشابهة فقط، كقوله: وجنى الجنتين . قال إني لعملكم من القالين . ليريه كيف يواري . وإن يردك بخير فلا راد لفضله . اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا . وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى ... إلى قوله: وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض .

تنبيه: لكون الجناس من المحاسن اللفظية لا المعنوية ترك عند قوة المعنى، كقوله تعالى: وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين . قيل: ما الحكمة في أنه لم يقل وما أنت بمصدق، فإنه يؤدي معناه مع رعاية التجنيس؟ وأجيب بأن في مؤمن لنا من المعنى ما ليس في مصدق، لأن معنى قولك: فلان مثلا مصدق لي: قال لي صدقت. وأما مؤمن فمعناه مع التصديق إعطاء الأمن، ومقصودهم التصديق وزيادة، وهو طلب الأمن، فلذلك عبر به. وقد زل بعض الأدباء فقال في قوله: أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين . لو قال: وتدعون لكان فيه مجانسة. وأجاب الإمام فخر الدين: بأن فصاحة القرآن ليست لأجل رعاية هذه التكليفات، بل لأجل قوة المعاني، وجزالة الألفاظ. وأجاب غيره بأن مراعاة المعاني أولى من مراعاة الألفاظ. ولو قيل: أتدعون وتدعون لوقع الالتباس على القارئ، فيجعلهما بمعنى واحد تصحيفا. وهذا الجواب غير ناضج. وأجاب ابن الزملكاني بأن التجنيس تحسين، وإنما يستعمل في مقام الوعد والتوعد والإحسان لا في مقام التهويل. وأجاب الخويي بأن " يدع " أخص من يذر، لأنه بمعنى ترك الشيء مع [ ص: 306 ] اعتنائه بشهادة الاشتقاق، نحو الإيداع، فإنه عبارة عن ترك الوديعة مع الاعتناء بحالها، ولهذا يختار لها من هو مؤتمن عليها. ومن ذلك الدعة بمعنى الراحة. وأما تذر فمعناه الترك مطلقا، والترك مع الإعراض والرفض الكلي. قال الراغب: يقال فلان يذر الشيء: أي يقذفه لقلة الاعتداد به. ومنه الوذرة قطعة من اللحم لقلة الاعتداد بها. ولا شك أن السياق إنما يناسب هذا دون الأول، فأريد هنا تشنيع حالهم في الإعراض عن ربهم، وأنهم بلغوا الغاية في الإعراض. انتهى. الجمع هو أن يجمع بين شيئين أو أشياء - متعددة في حكم، كقوله تعالى: المال والبنون زينة الحياة الدنيا . جمع المال والبنون في الزينة. وكذا قوله: الشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان . الجمع والتفريق هو أن يجمع بين شيئين في معنى واحد ويفرق بين جهتي الإدخال. وجعل منه الطيبي قوله تعالى: الله يتوفى الأنفس حين موتها . جمع النفسين في حكم التوفي، ثم فرق بين جهتي التوفي بالحكم بالإمساك والإرسال، أي الله يتوفى بالإمساك والإرسال، أي الله يتوفى الأنفس التي تقبض والتي لم تقبض، ويمسك الأولى، ويرسل الأخرى. الجمع والتقسيم وهو جمع متعدد تحت حكم، ثم تقسيمه، كقوله تعالى: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات . [ ص: 307 ] الجمع والتفريق والتقسيم كقوله تعالى: يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه . فالجمع في قوله: لا تكلم نفس إلا بإذنه ، لأنها متعددة معنى، إذ النكرة في سياق النفي تعم. والتفريق في قوله: فمنهم شقي وسعيد . والتقسيم في قوله تعالى: فأما الذين شقوا . وأما الذين سعدوا .

جمع المؤتلف والمختلف هو أن يريد التسوية بين ممدوحين، فيأتي بمعان مؤتلفة في مدحها. ويروم بعد ذلك ترجيح أحدهما على الآخر بزيادة فضل لا ينقص الآخر، فيأتي لأجل ذلك بمعان تخالف معنى التسوية، كقوله تعالى: وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما . سوى في الحكم والعلم، وزاد في فضل سليمان بالفهم. حسن النسق وهو أن يتكلم المتكلم بكلمات متواليات معطوفات متلاحمات تلاحما سليما مستحسنا، بحيث إذا أفردت كل جملة منها قامت بنفسها، واستقل معناها بلفظها، ومنه قوله تعالى: وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين . فإنها جمل معطوف بعضها على بعض بواو النسق على الترتيب الذي تقتضيه البلاغة من الابتداء بالأهم الذي هو انحسار الماء عن الأرض المتوقف عليه غاية مطلوب أهل السفينة، من الإطلاق من سجنها، ثم انقطاع مادة السماء المتوقف عليه تمام ذلك، من دفع أذاه بعد الخروج، ومنع إخلاف ما كان بالأرض، ثم الإخبار بذهاب الماء بعد انقضاء المادتين الذي هو متأخر عنه قطعا، ثم بقضاء الأمر الذي هو هلاك من قدر هلاكه ونجاة من سبق نجاته، وأخر عما قبله لأن علم ذلك لأهل السفينة بعد خروجهم منها، وخروجهم موقوف على ما تقدم، ثم أخبر باستواء السفينة واستقرارها المفيد ذهاب الخوف، وحصول الأمن [ ص: 308 ] من الاضطراب، ثم ختم بالدعاء على الظالمين، لإفادة أن الغرق وإن عم الأرض فلم يشمل إلا من استحق العذاب لظلمه. عتاب المرء نفسه ومنه: ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا الآية . وقوله: أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله الآية. العكس هو أن يؤتى بكلام يقدم فيه جزء ويؤخر آخر، ثم يقدم المؤخر ويؤخر المقدم، كقوله تعالى: ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء . يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل . ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي . هن لباس لكم وأنتم لباس لهن . لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن . وقد سئل عن الحكمة في عكس هذا اللفظ، فأجاب ابن المنير بأن فائدته الإشارة إلى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. وقال الشيخ بدر الدين بن الصاحب: الحق أن كل واحد من فعل المؤمنة والكافر منفي عنه الحل، أما فعل المؤمنة فيحرم لأنها مخاطبة، وأما فعل الكافر فنفي عنه الحل باعتبار أن هذا الوطء مشتمل على المفسدة، فليس الكفار مورد الخطاب، بل الأئمة، ومن قام مقامهم مخاطبون بمنع ذلك، لأن الشرع أمر بإخلاء الوجود من المفاسد، فاتضح أن المؤمنة نفي عنها الحل باعتبار، والكافر نفي عنه الحل باعتبار. قال ابن أبي الإصبع: ومن غريب أسلوب هذا النوع: ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون [ ص: 309 ] نقيرا ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن . فإن نظم الآية الثانية عكس نظم الأولى، لتقديم العمل في الأولى عن الإيمان، وتأخيره في الثانية عن الإسلام. ومنه نوع يسمى القلب والمقلوب المستوي، وما لا يستحيل بالانعكاس، وهو أن تقرأ الكلمة من أولها إلى آخرها، كما تقرأ من آخرها إلى أولها، كقوله: كل في فلك . وربك فكبر . ولا ثالث لهما في القرآن. العنوان قال ابن أبي الإصبع: هو أن يأخذ المتكلم في غرض، فيأتي لقصد تكميله وتأكيده بأمثلة في ألفاظ تكون عنوانا لأخبار متقدمة، وقصص سالفة. ومنه نوع عظيم جدا، وهو عنوان العلوم، بأن يذكر في الكلام ألفاظ تكون مفاتيح لعلوم ومداخل لها، فمن الأول قوله تعالى: واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها . فيها عنوان قصة بلعام. ومن الثاني قوله تعالى: انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب . فيها عنوان علم الهندسة، فإن الشكل المثلث أول الأشكال، فإذا نصب في الشمس على أي ضلع من أضلاعه لا يكون له ظل لتحديد رؤوس زواياه، فأمر الله تعالى أهل جهنم بالانطلاق إلى ظل هذا الشكل تهكما بهم. وقوله: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض . فيها عنوان علم الكلام، وعلم الجدل، وعلم الهيئة. الفرائد وهو مختص بالفصاحة دون البلاغة، لأنه الإتيان بلفظة تتنزل منزلة الفريدة من العقد، وهي الجوهرة التي لا نظير لها - تدل على عظم فصاحة هذا الكلام وقوة عارضته، وجزالة منطقه، وأصالة عربيته، بحيث لو أسقطت من الكلام عزت على الفصحاء. ومنه: حصحص الحق - في قوله: الآن حصحص الحق . [ ص: 310 ] والرفث في قوله: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم . ولفظة "فزع" في قوله: حتى إذا فزع عن قلوبهم . وخائنة في قوله: يعلم خائنة الأعين . وألفاظ كقوله: فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا . وقوله: فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين . القسم هو أن يريد المتكلم الحلف على شيء فيحلف بما يكون فيه فخر له، أو تعظيم، أو تنويه لقدره، أو ذم لغيره، أو جاريا مجرى الغزل والترقق، أو خارجا مخرج الموعظة والزهد، كقوله: فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون . أقسم سبحانه بقسم يوجب الفخر، لتضمنه التمدح بأعظم قدرة وأجل عظمة. لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون . أقسم سبحانه بحياة نبيه - صلى الله عليه وسلم - تعظيما لشأنه وتنويها بقدره. وسيأتي في وجه الأقسام أشياء تتعلق بذلك. اللف والنشر هو أن يذكر شيئان أو أشياء إما تفصيلا بالنص على كل واحد أو إجمالا. بأن يؤتى بلفظة تشتمل على متعدد، ثم يذكر أشياء على عدد ذلك، كل واحد يرجع إلى واحد من التقدم، ويفوض إلى عقل السامع رد كل واحد إلى ما يليق به. فالإجمالي كقوله تعالى: وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ، أي قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا اليهود، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا النصارى. وإنما سوغ الإجمال في اللف ثبوت العناد بين اليهود والنصارى، فلا يمكن أن يقول أحد الفريقين بدخول الفريق الآخر الجنة. فوثق بالعقل في أنه يرد كل قول إلى فريقه لأمن اللبس. وقائل ذلك يهود المدينة ونصارى نجران. [ ص: 311 ] قلت: وقد يكون الإجمال في اللف لا في النشر، بأن يؤتى بمتعدد، ثم بلفظ يشتمل على صفة تصلح لهما، كقوله تعالى: حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر . على قول أبي عبيدة: إن الخيط الأسود أريد به الفجر الكاذب لا الليل. وقد بينته في أسرار التنزيل. والتفصيلي قسمان: أحدهما: أن يكون على ترتيب اللفظ، كقوله تعالى: جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ، فالسكون راجع إلى الليل، والابتغاء راجع إلى النهار. وقوله: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا . فاللوم راجع إلى البخل، ومحسورا راجع إلى الإسراف، لأن معناه منقطعا لا شيء عندك. وقوله: ألم يجدك يتيما ... الآيات. فإن قوله: فأما اليتيم فلا تقهر - راجع إلى قوله: ألم يجدك يتيما فآوى . وقوله: وأما السائل فلا تنهر - راجع إلى: ووجدك ضالا ، فإن المراد السائل عن العلم، كما فسره مجاهد وغيره. وأما بنعمة ربك فحدث راجع إلى قوله: ووجدك عائلا فأغنى . رأيت هذا المثال في شرح الوسيط للنووي المسمى بالتنقيح. والثاني: أن يكون على عكس ترتيبه، كقوله تعالى: يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم ... الآيات. وجعل منه جماعة قوله تعالى: حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب . قالوا: متى نصر الله: قول الذين آمنوا، و ألا إن نصر الله قريب قول الرسول. وذكر الزمخشري له قسما آخر، كقوله: ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله . قال: هذا من باب اللف، وتقديره: ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار. إلا أنه فصل بين منامكم [ ص: 312 ] وابتغاؤكم بالليل والنهار، لأنهما زمانان، والزمان والواقع فيه كشيء وقع مع إقامة اللف على الاتحاد. المشاكلة ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقا أو تقديرا، فالأول كقوله تعالى: تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك . ومكروا ومكر الله . فإطلاق النفس والمكر في جانب الباري تعالى إنما هو لمشاكلة ما معه. وكذا قوله: وجزاء سيئة سيئة مثلها .. لأن الجزاء حق لا يوصف بأنه سيئة. فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم . اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا . فيسخرون منهم سخر الله منهم . إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم . ومثال التقديري: صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة . فقوله: صبغة الله أي تطهير الله، لأن الإيمان يطهر النفوس. والأصل فيه أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية، ويقولون: إنه تطهير لهم، فعبر عن الإيمان بصبغة الله للمشاكلة بهذه القرينة. المزاوجة أن يزاوج بين معنيين في الشرط والجزاء، أو ما جرى مجراهما، كقوله: إذا ما نهى الناهي فلج بي الهوى ... أصاخت إلى الواشي فلج بها الهجر ومنه في القرآن: آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين . [ ص: 313 ] المبالغة أن يذكر المتكلم وصفا يزيد فيه حتى يكون أبلغ في المعنى الذي قصده، وهي ضربان: مبالغة في الوصف، بأن يخرج إلى حد الاستحالة. ومنه: يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار . و ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط . ومبالغة في الصيغة، وصيغ المبالغة فعلان، كالرحمن. وفعيل، كالرحيم. وفعال، كالتواب والغفار والقهار. وفعول، كغفور، وشكور، وودود. وفعل، كحذر وأشر وفرح. وفعال بالتخفيف، كعجاب، وبالتشديد ككبار. وفعل كلبد وكبر. وفعلى كالعليا، والحسنى، والشورى، والسوأى فائدة الأكثر على أن فعلان أبلغ من فعيل، ومن ثم قيل الرحمن أبلغ من الرحيم. وفسره السهيلي بأنه ورد على صيغة التثنية، والتثنية تضعيف، فكأن البناء تضاعف فيه الصفة. وذهب ابن الأنباري إلى أن الرحيم أبلغ من الرحمن. ورجحه ابن عسكر بتقديم الرحمن عليه، وبأنه جيء به على صيغة الجمع، كعبيد، وهو أبلغ من صيغة التثنية. وذهب قطرب إلى أنهما سواء. فائدة ذكر البرهان الرشيدي أن صفات الله تعالى التي على صفة المبالغة كلها مجاز. لأنها موضوعة للمبالغة، ولا مبالغة فيها، لأن المبالغة أن يثبت للشيء أكثر مما له، وصفاته تعالى متناهية في الكمال لا تمكن المبالغة فيها. وأيضا فالمبالغة تكون [ ص: 314 ] في صفات تقبل الزيادة والنقصان، وصفات الله منزهة عن ذلك. واستحسنه الشيخ تقي الدين السبكي. وقال الزركشي في البرهان: التحقيق أن صيغ المبالغة قسمان: أحدهما: ما تحصل المبالغة فيه بحسب زيادة الفعل. والثاني: بحسب تعدد المفعولات. ولا شك أن تعددها لا يوجب للفعل زيادة، إذ الفعل الواحد قد يقع على جماعة متعددين، وعلى هذا القسم تنزل صفاته تعالى، ويرتفع الإشكال. ولهذا قال بعضهم - في " حكيم ": معنى المبالغة فيه تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع. وقال في الكشاف: المبالغة في التواب للدلالة على كثرة من يتوب عليه من عباده، أو لأنه بليغ في قبول التوبة، نزل صاحبها منزلة من لم يذنب قط لسعة كرمه. قد أورد بعض الفضلاء سؤالا على قوله: " والله على كل شيء قدير " . وهو أن قديرا من صيغ المبالغة، فيستلزم الزيادة على معنى قادر. والزيادة على معنى قادر محال، إذ الإيجاد من وجد لا يمكن فيه التفاضل باعتبار كل فرد. وأجيب بأن المبالغة لما تعذر حملها على كل فرد وجب صرفها إلى جموع الأفراد التي دل السياق عليها، فهي بالنسبة إلى كثرة التعلق لا الوصف. المطابقة وتسمى الطباق: الجمع بين المتضادين في الجملة، وهو قسمان: حقيقي. ومجازي. والثاني: يسمى التكافؤ، وكل منهما إما لفظي أو معنوي، وإما طباق إيجاب أو سلب. فمن أمثلة ذلك: فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا . وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا [ ص: 315 ] لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم . وتحسبهم أيقاظا وهم رقود . ومن أمثلة المجازي: أومن كان ميتا فأحييناه ، أي ضالا فهديناه. ومن أمثلة طباق السلب: تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك . فلا تخشوا الناس واخشون . ومن أمثلة المعنوي: إن أنتم إلا تكذبون قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون . معناه إن ربنا يعلم إنا لصادقون. جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء . قال أبو علي الفارسي: لما كان البناء رافعا للمبني قوبل بالفراش الذي هو خلاف البناء. ومنه نوع يسمى الطباق الخفي، كقوله: مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا ، لأن الغرق من صفات الماء، فكأنه جمع بين الماء والنار. قال ابن منقذ: وهي أخفى مطابقة في القرآن. وقال ابن المعتز: من أملح الطباق وأخفاه قوله تعالى: ولكم في القصاص حياة .، لأن معنى القصاص القتل، فصار القتل سبب الحياة. ومنه نوع يسمى ترصيع الكلام، وهو اقتران الشيء بما يجتمع معه في قدر مشترك، كقوله: إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى . جاء بالجوع مع العري، وبابه أن يكون مع الظمأ، وبالضحى مع الظمأ، وبابه أن يكون مع العري، لكن الجوع والعري اشتركا في الخلو، فالجوع خلو البطن من الطعام. والعري خلو الظاهر من اللباس. والضحى والظمأ اشتركا في الاحتراق، فالظمأ احتراق الباطن من العطش. والضحى احتراق الظاهر من حر الشمس. ومنه نوع يسمى المقابلة، وهو أن يذكر لفظان فأكثر ثم أضدادها على الترتيب. [ ص: 316 ] قال ابن أبي الإصبع: والفرق بين الطباق والمقابلة من وجهين: أحدهما: أن الطباق لا يكون إلا في ضدين فقط. والمقابلة لا تكون إلا بما زاد على الضدين من الأربعة إلى العشرة. والثاني: أن الطباق لا يكون إلا بالأضداد، والمقابلة بالأضداد وبغيرها. قال السكاكي: ومن خواص المقابلة أنه إذا شرط في الأول أمرا شرط في الثاني ضده، كقوله تعالى: فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى . قابل بين الإعطاء والبخل، والاتقاء والاستغناء، والتصديق والتكذيب، واليسرى والعسرى، ولا جعل التيسير في الأول مشتركا بين الإعطاء والاتقاء والتصديق جعل ضده - وهو التعسير - مشتركا بين أضدادها. وقال بعضهم: المقابلة إما لواحد بواحد، وذلك قليل جدا، كقوله تعالى: لا تأخذه سنة ولا نوم . أو اثنين باثنين كقوله تعالى: فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا . أو ثلاثة بثلاثة كقوله: يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث . واشكروا لي ولا تكفرون . أو أربعة بأربعة كقوله: فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى . أو خمسة بخمسة كقوله: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها . قابل بين بعوضة، فما فوقها. وبين فأما الذين آمنوا والذين كفروا. وبين يضل ويهدي، وبين ينقضون وميثاقه، وبين يقطعون وأن يوصل. أو ستة بستة، كقوله تعالى: زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين . الآيات، ثم قال: قل أأنبئكم بخير من ذلكم . قابل الجنات، والأنهار، والخلد، والأزواج، والتطهير، والرضوان، بإزاء النساء، والبنين، والذهب، والفضة، والخيل المسومة، والأنعام، والحرث. وقسم آخر المقابلة ثلاثة أنواع: نظيري، ونقيضي، وخلافي، مثال الأول [ ص: 317 ] مقابلة السنة بالنوم في الآية الأولى، فإنهما جميعا من باب الرقاد المقابل باليقظة في آية، وتحسبهم أيقاظا وهم رقود . وهذا مثال الثاني، فإنهما نقيضان. ومثال الثالث مقابلة الشر بالرشد في قوله: وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا . فإنهما خلافان لا نقيضان، فإن نقيض الشر الخير، والرشد الغي. المواربة براء مهملة وباء موحدة: أن يقول المتكلم قولا يتضمن الإنكار عليه، فإذا حصل الإنكار استحضر بحذقه وجها من الوجوه يتخلص به، إما بتحريف كلمة، أو تصحيفها، أو زيادة أو نقص. قال ابن أبي الإصبع: ومنه قوله تعالى حكاية عن أكبر أولاد يعقوب: ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق ، فإنه قرئ إن ابنك يسرق ولم يسرق، فأتى بالكلام على الصحة بإبدال ضمة من فتحة وتشديد في الراء وكسرها. المراجعة قال ابن أبي الإصبع: هي أن يحكي المتكلم مراجعة في القول جرت بينه وبين محاور له بأوجز عبارة، وأعدل سبك، وأعذب ألفاظ، ومنه قوله تعالى: قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين . جمعت هذه القطعة - وهي بعض آية - ثلاث مراجعات فيها معاني الكلام، من الخبر والاستخبار، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، بالمنطوق والمفهوم. قلت: أحسن من هذا أن يقال جمعت الخبر والطلب، والإثبات والنفي، والتأكيد والحذف، والبشارة والنذارة، والوعد والوعيد. [ ص: 318 ] النزاهة هي خلوص ألفاظ الهجاء من الفحش حتى يكون - كما قال أبو عمرو بن العلاء - وقد سئل عن أحسن الهجاء: هو الذي إذا أنشدته العذراء في خدرها لا يقبح عليها. ومنه قوله تعالى: وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين . ثم قال: أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون . فإن ألفاظ ذم هؤلاء الخبر عنهم بهذا الخبر أتت منزهة عما يقع في الهجاء من الفحش. وسائر هجاء القرآن كذلك. الإبداع بالباء الموحدة: وهو أن يشتمل الكلام على عدة ضروب من البديع. قال ابن أبي الإصبع: ولم أر في الكلام مثل قوله تعالى: وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين . فإن فيها عشرين ضربا، وهي سبع عشرة لفظة، وذلك للمناسبة التامة في ابلعي و أقلعي ، والاستعارة فيهما، والطباق بين الأرض والسماء، والمجاز في قوله: " يا سماء " ، فإن الحقيقة يا مطر السماء، والإشارة في: وغيض الماء، فإنه عبر به عن معان كثيرة، لأن الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء وتبلع الأرض ما يخرج منها من عيون الماء، فينقص الحاصل على وجه الأرض من الماء. والإرداف في: واستوت ، والتمثيل في: وقضي الأمر . والتعليل، فإن " غيض الماء " علة الاستواء. وصحة التقسيم، فإنه استوعب فيه أقسام الماء حالة نقصه، إذ ليس إلا احتباس ماء السماء، والماء النابع من الأرض، وغيض الماء الذي على ظهرها. والاحتراس في الدعاء لئلا يتوهم أن الغرق لعمومه شمل من لا يستحق الهلاك، فإن عدله تعالى يمنع أن يدعو على غير مستحق. وحسن النسق، وائتلاف اللفظ مع المعنى. والإيجاز، فإنه تعالى قص القصة مستوعبة بأخصر عبارة. والتسهيم، لأن أول الآية يدل على آخرها. والتهذيب، لأن مفرداتها موصوفة بصفات الحسن، كل لفظة سهلة مخارج [ ص: 319 ] الحروف، عليها رونق الفصاحة، مع الخلو من البشاعة وعقادة التركيب. وحسن البيان من جهة أن السامع لا يتوقف في فهم معنى الكلام، ولا يشكل عليه شيء منه. والتمكين، لأن الفاصلة مستقرة في محلها، مطمئنة في مكانها، غير قلقة ولا مستدعاة، والانسجام. هذا ما ذكره ابن أبي الإصبع. وفي بديعة الصفي منها مائة وخمسون، فتأملها.

التالي السابق


الخدمات العلمية