صفحة جزء
[ ص: 566 ]

-4-

فصل

565 - إذا قلت : "هذا ينحت من صخر ، وذاك يغرف من بحر" ، لم تكن شبهت قيل الشعر بالنحت والغرف ، ولكن تكون قد شبهت هذا في صعوبة قول الشعر عليه ، وفي احتياجه إلى أن يكد نفسه بمن ينحت من الصخر- وشبهت الآخر في سهولة قوله عليه ، وفي أنه يناله عفوا ، بمن يغرف من بحر.

يبين ذلك : أن ليس الشبه بوصف يرجع إلى "النحت" و "الغرف" من حيث هما نحت وغرف، ولكن الشبه من حيث كان يشق على هذا ويسهل على ذاك . وإذا كان كذلك ، كان المعنى على تشبيه الذي يحتاج إلى أن يكد النفس بالذي ينحت الصخر ، والذي يسهل عليه ويأتيه عفوا بالذي يغرف من بحر ، لا على تشبيه قول الشعر في نفسه من حيث هو قول شعر وتأليف كلام وإقامة وزن وقافية ، بالنحت والغرف ، هذا محال.

ثم إن المزية التي تجدها لترك التصريح بالتشبيه ، وأنك لم تقل : "هو كمن ينحت من صخر" ، ليست لأنك لما قلت : "هو ينحت من صخر" جعلته أشبه بالناحت من الصخر ، ولكن بأنك جعلت شبه الناحت من الصخر له أثبت ، فاعرفه.

[ ص: 567 ]

- 5 -

“مسألة"

657 - قال النمري في قوله في الحماسة :


لنا إبل لم تهن ربها كرامتها والفتى ذاهب



"يقول : لم يكرمها فتهينه كرامتها ، قال : وهذا كقولك : "لم تبذلني صيانة مالي" ، أي لم أصنه فأبتذل ، لا أنه أكرمها فلم يهنه ذاك . قال ومثله قول النابغة :


مثل الزجاجة ، لم تكحل من الرمد



أي : لم ترمد فتكحل منه.

قال الشيخ الإمام : الأولى أن يكون المعنى : لم تمنعنا كرامتها أن ننحرها للأضياف ونسخو بها . ونظر هو إلى ما جرت به العادة من أن يقال في وصف الجواد : إنه لا خطر للمال عنده . وذلك وإن كان معروفا من كلام الناس ، فإنهم يقولونه على معنى أنه كأنه من حيث الحمد والذكر الجميل ، لا يكون النفيس من المال عنده نفيسا ، وأنه يبذله بذل الشيء الذي لا يكون له قيمة . وإنهم ليخرجون [ ص: 568 ]

لطلب المبالغة في ذلك إلى أن يزعموا أنه يبغض المال ويريد هلاكه ، وأنه يطلبه بترة ، وأنه حنق عليه كما قال :


حنق على بدر اللجين



وكل ذلك على تقدير "كأن" . وإلا فلو كان الأمر على الظاهر ، لكان ذلك يخرج به إلى أن لا يستحق على بذله الحمد ، ولكان يكون ذلك للجهالة بنفاسة النفيس . ومن كان إعطاؤه المال على هذا السبيل ، كان مؤوفا . ولهذا قال الفضل بن يحيى : "أيظن الناس أنا لا نجد بأموالنا ما يجد البخلاء؟ " . ولو كان لا يكون النفيس من المال نفيسا عند جواد ، لكان قولهم : "إنه يشتري الحمد بالغلاء" ، محالا ، لأنه لا يكون المشتري الشيء غاليا حتى يبذل فيه من المال ما يكون له خطر عظيم عنده . هذا ويجوز أن يكون المعنى في قوله : "كرامتها" ، نفاستها في أنفسها ، وأن لا تقدر فيه التعدية ، وأن يقال : "كرامتها علينا أو عليه ، أي على ربها" كما يقولون : يهينون كرائم أموالهم لأضيافهم ، ولا تهينهم بأن تدعوهم إلى الضن بها ، فتورثهم الهون والسقوط في أقدارهم ، فاعرفه.

هذا آخر ما وجد على سواد الشيخ من هذا الكتاب .

كتب في شعبان المبارك سنة ثنتين وسبعين وخمسمائة

التالي السابق


الخدمات العلمية