صفحة جزء
[ ص: 602 ]

فصل : في فن آخر من السؤال

28 - وهو أن يقولوا : إنا قد علمنا من عادات الناس وطبائعهم أن الواحد منهم تواتيه العبارة ، ويطيعه اللفظ في صنف من المعاني ، ثم يمتنع عليه مثل تلك العبارة وذلك اللفظ في صنف آخر.

فقد يكون الرجل ، كما لا يخفى ، في المديح أشعر منه في المراثي ، وفي الغزل واللهو والصيد أنفذ منه في الحكم الآداب ، وتراه يستطيع في الأوصاف والتشبيهات ما لا يستطيع مثله في سائر المعاني ، وترى الكاتب وهو في الإخوانيات أبلغ منه في السلطانيات ، وبالعكس . هذا أمر معروف ظاهر لا يشتبه . وإذا كان كذلك ، فلعل العجز الذي ظهر فيهم عن معارضة القرآن ، لم يظهر لأنهم لا يستطيعون مثل ذلك النظم ، ولكن لأنهم لا يستطيعونه في مثل معاني القرآن.

واعلم أن هذا السؤال يجيء لهم على وجه آخر، وفي صورة أخرى، وأنا أستقصيه، حتى إذا وقع الجواب عنه وقع عن جملته ، وكان الحسم في الداء كله . وذاك أن يقولوا : إنه لا تصح المطالبة إلا بما يتصوره وجوده ، وما يدخل في حيز الممكن ، وإنا لنعلم من حال المعاني أن الشاعر يسبق في الكثير منها إلى عبارة يعلم ضرورة أنها لا يجيء في ذلك المعنى إلا ما هو دونها ومنحط عنها ، حتى يقضى له بأنه قد غلب عليه واستبد به ، كما قضى الجاحظ لبشار في قوله :


كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه



[ ص: 603 ]

فإنه أنشد هذا البيت مع نظائره ثم قال : وهذا المعنى قد غلب عليه بشار ، كما غلب عنترة على قوله :


وخلا الذباب بها فليس ببارح     غردا كفعل الشارب المترنم
هزجا يحك ذراعه بذراعه     قدح المكب على الزناد الأجذم



قال : فلو أن امرأ القيس عرض لمذهب عنترة في هذا لافتضح" .

وليس ذاك لأن بشارا وعنترة قد أوتيا في علم النظم جملة ما لم يؤت غيرهما ، ولكن لأنه إذا كان في مكان خبئ فعثر عليه إنسان وأخذه ، لم يبق لغيره مرام في ذلك المكان ، وإذا لم يكن في الصدفة إلا جوهرة واحدة ، فعمد إليها عامد فشقها عنها ، استحال أن يستام هو أو غيره إخراج جوهرة أخرى من تلك الصدفة . وما هذا سبيله في الشعر كثير لا يخفى على من مارس هذا الشأن . فمن البين في ذلك قول القطامي :


فهن ينبذن من قول يصبن به     مواقع الماء من ذي الغلة الصادي



وقول ابن حازم :


كفاك بالشيب ذنبا عند غانيه     وبالشباب شفيعا أيها الرجل



[ ص: 604 ]

وقول عبد الرحمن بن حسان :


لم تفتها شمس النهار بشيء     غير أن الشباب ليس يدوم



وقول البحتري :


عريقون في الإفضال يؤتنف الندى     لناشئهم من حيث يؤتنف العمر



لا ينظر في هذا وأشباهه عارف إلا علم أنه لا يوجد في المعنى الذي يرى مثله ، وأن الأمر قد بلغ غايته ، وأن لم يبق للطالب مطلب.

29 - وكذلك السبيل في المنثور من الكلام ، فإنك تجد فيه متى شئت فصولا تعلم أن لن يستطاع في معانيها مثلها، فمما لا يخفى أنه كذلك قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه :

"قيمة كل امرئ ما يحسنه" ، وقول الحسن رحمة الله عليه : "ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت" . ولن تعدم ذلك إذا تأملت كلام البلغاء ونظرت في الرسائل.

ومن أخص شيء بأن يطلب ذلك فيه ، الكتب المبتدأة الموضوعة في العلوم المستخرجة ، فإنا نجد أربابها قد سبقوا في فصول منها إلى ضرب من اللفظ والنظم ، أعيا من بعدهم أن يطلبوا مثله ، أو يجيئوا بشبيه له ، فجعلوا لا يزيدون على أن يحفظوا تلك الفصول على وجوهها ، ويودوا ألفاظهم فيها على نظامها وكما هي .

وذلك ما كان مثل قول سيبويه في أول الكتاب :

[ ص: 605 ]

"وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء ، وبنيت لما مضى وما يكون ولم يقع ، وما هو كائن لم ينقطع".

لا نعلم أحدا أتى في معنى هذا الكلام بما يوازنه أو يدانيه ، أو يقع قريبا منه ، ولا يقع في الوهم أيضا أن ذلك يستطاع ، أفلا ترى أنه إنما جاء في معناه قولهم: " والفعل ينقسم بأقسام الزمان ، ماض وحاضر ومستقبل" ، وليس يخفى ضعف هذا في جنبه وقصوره عنه . ومثله قوله :

"كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم لهم ، وهم بشأنه أغنى ، وإن كانا جميعا يهمانهم ويغنيانهم" .

30 - وإذا كان الأمر كذلك ، لم يمتنع أن يكون سبيل لفظ القرآن ونظمه هذا السبيل ، وأن يكون عجزهم عن أن يأتوا بمثله في طريق العجز عما ذكرنا ومثلنا ، فهذا جملة ما يجئ لهم في هذا الضرب من التعلق قد استوفيته . وإذ قد عرفته ، فاسمع الجواب عنه ، فإنه يسقطه عنك دفعة ، ويحسمه عنك حسما.

[ ص: 606 ]

31 - واعلم أنهم في هذا كرام قد أضل الهدف ، وبان قد زال عن القاعدة ، وذاك أنه سؤال لا يتجه حتى يقدر أن التحدي كان إلى أن يعبروا عن معاني القرآن أنفسها وبأعيانها بلفظ يشبه لفظه ، ونظم يوازي نظمه . وهذا تقدير باطل ، فإن التحدي كان إلى أن يجيئوا في أي معنى شاءوا من المعاني بنظم يبلغ نظم القرآن في الشرف أو يقرب منه . يدل على ذلك قوله تعالى « : قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات » [ سورة هود : 13] ، أي مثله في النظم ، وليكن المعنى مفترى كما قلتم ، فلا إلى المعنى دعيتم ، ولكن إلى النظم ، وإذا كان كذلك ، كان بينا أنه بناء على غير أساس ، ورمي من غير مرمى ، لأنه قياس ما امتنعت فيه المعارضة من جهة وفي شيء مخصوص ، على ما امتنعت معارضته من الجهات كلها وفي الأشياء أجمعها.

فلو كان إذ سبق الخليل وسيبويه في معاني النحو إلى ما سبقا إليه من اللفظ والنظم ، لم يسبق الجاحظ في معانيه التي وضع كتبه لها إلى ما يوازي ذلك ويضاهيه ، أو كان بشار إذا سبق في معناه إلى ما سبق إليه ، لم يوجد مثل نظمه فيه لشاعر في شيء من المعاني لكان لهم في ذلك متعلق فأما وليس من نظم يقال : "إنه لم يسبق إليه" في معنى ، إلا ويوجد أمثاله أو خير منه في معان أخر ، فمن أشد المحال وأبينه الاعتراض به.

واعلم أنا لو سلمنا لهم الذي ظنوه على بطلانه من أن التحدي كان إلى أن يعبر عن أنفس معاني القرآن بما يشبه لفظه ونظمه ، لم نعدم الحجاج معهم ، وأن يكون لنا عليهم كلام في الذي تعلقوا به ، ودفع لهم عنه . إلا أن العلماء آثروا أن يكون الجواب من الوجه الذي ذكرت ، إذ وفق ما نص عليه في التنزيل ، وكان [ ص: 607 ]

فيه سد الباب وحسم الشبه جملة . ومن ضعف الرأي أن تسلك طريقا يغمض ، وقد وجدت السنن اللاحب ، وأن تطاول المريض في علاجك ، ومعك الدواء الذي يشفي من كثب ، وأن ترخي من خناق الخصم ، وفي قدرتك ألا يملك نفسا ، ولا يستطيع نطقا.

32 - ثم إن أردت أن تكلمهم على تسليم ذلك ، فالطريق فيه أن يقال لهم على أول كلامهم حيث قالوا : "إنا رأينا الرجل يكون في نوع أشعر ، وعلى جودة اللفظ والنظم أقدر منه في غيره". إنه ينبغي أن تعلموا أول شيء أنكم حرفتم كلام الناس في هذا عن موضعه ، فإنا إذا تأملنا الحال في تقديمهم الشاعر في فن من الفنون ، وجدناهم قد فعلوا ذلك على معنى أنه قد خرج في معاني ذلك الفن ما لم يخرجه غيره ، واتسع لما [لم] يتسع له من سواه فإذا قالوا : "هو أنسب الناس" ، فالمعنى أنه قد فطن في معاني الغزل [وما] يدل على شدة الوجد وفرط الحب والهيمان لما لم يفطن له غيره . وكذلك إذا قالوا : "أمدح ، أو أهجى " ، فالمعنى أنه قد اهتدى في معاني الزين والشين وفي التحسين والتهجين إلى ما لم يهتد إليه نظراؤه ، ولو كانوا في اللفظ والنظم يذهبون ، لكان محالا أن يقولوا : "هو أنسب" ، لأن ذلك في صفة اللفظ والنظم محال . ومن هذا الذي يشك أن لم يكن قول جرير :


ألستم خير من ركب المطايا     وأندى العالمين بطون راح



[ ص: 608 ]

أمدح بيت عند من قال ذلك ، من أجل لفظه ونظمه ، وأن ذلك كان من أجل معناه؟ هذا ما لا معنى لزيادة القول فيه.

33 - فإن قالوا : هم ، وإن كانوا قد أرادوا المعنى في قولهم : "هذا أمدح ، وذاك أهجى ، وهذا أنسب ، وذاك أوصف" ، فإنه لن تتسع المعاني حتى تتسع الألفاظ ، ولن تقع مواقعها المؤثرة حتى يحسن النظم . وإذا كان كذلك فموضعنا منه بحاله . ثم ليس بمنكر ولا مجهول ولا مجهول أن يكون لفظ الشاعر ونظمه إذا تعاطى المدح ، أحسن وأفضل منهما إذا هو هجا أو نسب.

قيل : إنا ندع النزاع في هذا ونسلمه لكم ، فأخبرونا عن معاني القرآن ، أهي صنف واحد أم أصناف؟ فإن قلتم : "صنف واحد" ، تجاهلتم ، فقد علمنا الحجج والبراهين ، والحكم والآداب ، والترغيب والترهيب ، والوعد والوعيد ، والوصف والتشبيه والأمثال ، وذكر الأمم والقرون واقتصاص أحوالهم ، والنبأ عما جرى بينهم وبين الأنبياء عليهم السلام ، وما لا يحصى ولا يعد.

وإن قلتم : "هي أصناف" ، كما لا بد منه.

قيل لكم : فقد كان ينبغي لشعراء العرب وبلغئها أن يعمد كل منهم إلى الصنف الذي تنفذ قريحته فيه فيعارضه ، وأن يجعلوا الأمر في ذلك قسمة بينهم . وفي هذا كفاية لمن عقل.

[ ص: 609 ]

34- وأما قولهم : "إنه قد يكون أن يسبق الشاعر في المعنى إلى ضرب من اللفظ والنظم ، يعلم أنه لا يجيء في ذلك المعنى أبدا إلى ما هو منحط عنه" فإنه ينبغي أن يقال لهم : قد سلمنا أن الأمر كما قلتم وعلمتم ، أفعلمتم شاعرا أو غير شاعر عمد إلى ما لا يحصى كثرة من المعاني ، فتأتى له في جميعها لفظ أو نظم أعيا الناس أن يستطيعوا مثله ، أو يجدوه لمن تقدمهم؟ أم ذلك شيء يتفق للشاعر ، من كل مائة بيت يقولها ، في بيت؟ ولعل [غير] الشاعر على قياس ذلك . وإذا كان لا بد من الاعتراف بالثاني من الأمرين ، وهو أن لا يكون إلا نادرا وفي القليل ، فقد ثبت إعجاز القرآن بنفس ما راموا به دفعه ، من حيث كان النظم الذي لا يقدر على مثله قد جاء منه فيما لا يحصى كثرة من المعاني.

35 - وهكذا القول في الفصول التي ذكروا أنه لم يوجد أمثالها في معانيها ، لأنها لا تستمر ولا تكثر ، ولكنك تجدها كالفصوص الثمينة والوسائط النفيسة وأفراد الجواهر ، تعد كثيرا حتى ترى واحدا . فهذا وشبهه من القول في دفعهم مع تسليم ما ظنوه من أن التحدي كان إلى أن يعبر عن معاني القرآن أنفسها ممكن غير متعذر ، إلا أن الأولى أن يلزم الجدد الظاهر ، وأن لا يجابوا إلى ما قالوه من أن التحدي كان إلى أن يؤتى في أنفس معانيه بنظم ولفظ [ ص: 610 ]

يشابهه ويساويه ، ويجزم لهم القول بأنهم تحدوا إلى أن يجيئوا في أي معنى أرادوا مطلقا غير مقيد ، وموسعا عليهم غير مضيق ، بما يشبه نظم القرآن أو يقرب من ذلك.

36 - ومما يحيل أن يكون التحدي قد كان إلى ما ذكروه ومع الشرط الذي توهموه ، أن العرب قد كانت تعرف "المعارضة" ما هي وما شرطها ، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عدل بهم في تحديه لهم إلى ما لا يطالب بمثله ، لكان ينبغي أن يقولوا : "إنك قد ظلمتنا ، وشرطت في معارضة الذي جئت به ما لا يشترط ، أو ما ليس بواجب أن يشترط ، وهو أن يكون النظم الذي نعارض به في أنفس معاني هذا الذي تحديت إلى معارضته ، فدع عنا هذا الشرط ، ثم اطلب فإنا نريك حينئذ مما قاله الأولون وقلناه وما نقوله في المستأنف ، ما يوازي نظم ما جئت به في الشرف والفضل ويضاهيه ، ولا يقصر عنه" . وفي هذه كفاية لمن كانت له أذن تعي ، وقلب يعقل.

قد ثم الذي أردته في جواب سؤالهم ، وبان بطلانه بيانا لا يبقى معه إن شاء الله شك لناظر ، إذا هو نصح نفسه وأذكى حسه ، ونظر نظر من يريد الدين ، ويرجو مما عند الله ، ويريد فيما يقول ويعمل وجهه تقدس اسمه ، وإليه تعالى نرغب في أن يجعلنا ممن هذه صفته في كل ما ننتحيه وننظر فيه ، بفضله ومنه ورحمته ، إنه على ما يشاء قدير.

الحمد لله حق حمده ، والصلاة على رسوله محمد وآله من بعده.

التالي السابق


الخدمات العلمية