صفحة جزء
باب القصر والاختصاص - فصل في " ما " و " إلا "

بيان وأمثلة فيما فيه " ما " و " إلا "

398- وإذ قد عرفت هذه الجملة، فإنا نذكر جملة من القول في " ما " و " إلا " وما يكون من حكمهما .

اعلم أنك إذا قلت : " ما جاءني إلا زيد " احتمل أمرين:

أحدهما : أن تريد اختصاص " زيد " بالمجيء وأن تنفيه عمن عداه . وأن يكون كلاما تقوله، لا لأن بالمخاطب حاجة إلى أن تعلم أن " زيدا " قد جاءك ولكن لأن به حاجة إلى أن يعلم أنه لم يجئ إليك غيره .

والثاني : أن تريد الذي ذكرناه في " إنما " ويكون كلاما تقوله ليعلم أن الجائي " زيد " لا غيره . فمن ذلك قولك للرجل يدعي أنك قلت قولا ثم قلت خلافه : " ما قلت اليوم إلا ما قلته أمس بعينه " ، ويقول : " لم تر زيدا وإنما رأيت فلانا " . فتقول : " بل لم أر إلا زيدا " . وعلى ذلك قوله تعالى : « ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم » [ سورة المائدة : 117 ] لأنه ليس المعنى أني لم أزد على ما أمرتني به شيئا، ولكن المعنى أني لم أدع ما أمرتني به أن أقوله لهم، وقلت خلافه .

ومثال ما جاء في الشعر من ذلك قوله :


قد علمت سلمى وجاراتها ما قطر الفارس إلا أنا



[ ص: 338 ]

المعنى : أنا الذي قطر الفارس وليس المعنى على أنه يريد أن يزعم أنه انفرد بأن قطره، وأنه لم يشركه فيه غيره .

بيان في قوله : « إنما يخشى الله من عباده العلماء » وتقديم اسمه سبحانه

399- وها هنا كلام ينبغي أن تعلمه، إلا أني أكتب لك من قبله مسألة، لأن فيها عونا عليه . قوله تعالى : « إنما يخشى الله من عباده العلماء » [ سورة فاطر : 28 ] في تقديم اسم الله عز وجل معنى خلاف ما يكون لو أخر . وإنما يبين لك ذلك إذا اعتبرت الحكم في " ما " و " إلا " وحصلت الفرق بين أن تقول : " ما ضرب زيدا إلا عمرو " وبين قولك : " ما ضرب عمرو إلا زيدا " .

والفرق بينهما أنك إذا قلت : " ما ضرب زيدا إلا عمرو " فقدمت المنصوب، كان الغرض بيان الضارب من هو، والإخبار بأنه عمرو خاصة دون غيره وإذا قلت: " ما ضرب عمرو إلا زيدا " فقدمت المرفوع كان الغرض بيان المضروب من هو، والإخبار بأنه " زيد " خاصة دون غيره .

400- وإذ قد عرفت ذلك فاعتبر به الآية ، وإذا اعتبرتها به علمت أن تقديم اسم الله تعالى إنما كان لأجل أن الغرض أن يبين الخاشون من هم، ويخبر بأنهم العلماء خاصة دون غيرهم . ولو أخر ذكر اسم الله وقدم [ ص: 339 ] العلماء فقيل : " إنما يخشى العلماء الله " لصار المعنى على ضد ما هو عليه الآن، ولصار الغرض بيان المخشي من هو، والإخبار بأنه الله تعالى دون غيره . ولم يجب حينئذ أن تكون الخشية من الله تعالى مقصورة على العلماء، وأن يكونوا مخصوصين بها كما هو الغرض في الآية ، بل كان يكون المعنى أن غير العلماء يخشون الله تعالى أيضا، إلا أنهم مع خشيتهم الله تعالى يخشون معه غيره، والعلماء لا يخشون غير الله تعالى .

وهذا المعنى وإن كان قد جاء في التنزيل في غير هذه الآية كقوله تعالى : « ولا يخشون أحدا إلا الله » [ سورة الأحزاب : 39 ] فليس هو الغرض في الآية ولا اللفظ بمحتمل له البتة . ومن أجاز حملها عليه، كان قد أبطل فائدة التقديم وسوى بين قوله تعالى : « إنما يخشى الله من عباده العلماء » وبين أن يقال : " إنما يخشى العلماء الله " . وإذا سوى بينهما لزمه أن يسوي بين قولنا : " ما ضرب زيدا إلا عمرو " وبين : " ما ضرب عمرو إلا زيدا " . وذلك ما لا شبهة في امتناعه .

" ما " و " إلا " وتقديم المفعول في الجملة وتأخيره، وأن الاختصاص مع " إلا " يقع في الذي تؤخره

401- فهذه هي المسألة ، وإذ قد عرفتها فالأمر فيها بين: أن الكلام بـ " ما " و " إلا " قد يكون في معنى الكلام بـ " إنما " . ألا ترى إلى وضوح الصورة في قولك : " ما ضرب زيدا إلا عمرو " و " ما ضرب عمرو إلا زيدا " أنه في الأول لبيان من الضارب . وفي الثاني لبيان من المضروب، وإن كان تكلفا أن تحمله على نفي الشركة فتريد " بما ضرب زيدا إلا عمرو " أنه لم يضربه اثنان، و " بما ضرب عمرو إلا زيدا " أنه لم يضرب اثنين .

402- ثم اعلم أن السبب في أن لم يكن تقديم المفعول في هذا [ ص: 340 ] كتأخيره ولم يكن " ما ضرب زيدا إلا عمرو " و " ما ضرب عمرو إلا زيدا " سواء في المعنى- أن الاختصاص يقع في واحد من الفاعل والمفعول، ولا يقع فيهما جميعا . ثم إنه يقع في الذي يكون بعد " إلا " منهما دون الذي قبلها لاستحالة أن يحدث معنى الحرف في الكلمة من قبل أن يجيء الحرف . وإذا كان الأمر كذلك، وجب أن يفترق الحال بين أن تقدم المفعول على " إلا " فتقول : " ما ضرب زيدا إلا عمرو " وبين أن تقدم الفاعل فتقول : " ما ضرب عمرو إلا زيدا " ، لأنا إن زعمنا أن الحال لا يفترق جعلنا المتقدم كالمتأخر في جواز حدوثه فيه . وذلك يقتضي المحال الذي هو أن يحدث معنى " إلا " في الاسم من قبل أن تجيء بها، فاعرفه .

403- وإذ قد عرفت أن الاختصاص مع " إلا " يقع في الذي تؤخره من الفاعل والمفعول، فكذلك يقع مع " إنما " في المؤخر منهما دون المقدم . فإذا قلت : " إنما ضرب زيدا عمرو " كان الاختصاص في الضارب . وإذا قلت : " إنما ضرب عمرو زيدا " كان الاختصاص في المضروب . وكما لا يجوز أن يستوي الحال بين التقديم والتأخير مع " إلا " كذلك لا يجوز مع " إنما " .

التالي السابق


الخدمات العلمية