صفحة جزء
[ ص: 346 ]

عود إلى الاختصاص إذا كان " بما " و " إلا "

408- واعلم أنه إذا كان الكلام بـ " ما " و " إلا " كان الذي ذكرته من أن الاختصاص يكون في الخبر إن لم تقدمه، وفي المبتدأ إن قدمت الخبر أوضح وأبين، تقول : “ ما زيد إلا قائم " فيكون المعنى أنك اختصصت " القيام " من بين الأوصاف التي يتوهم كون زيد عليها بجعله صفة له . وتقول : “ ما قائم إلا زيد " فيكون المعنى أنك اختصصت زيدا بكونه موصوفا بالقيام . فقد قصرت في الأول الصفة على الموصوف، وفي الثاني الموصوف على الصفة .

409- واعلم أن قولنا في الخبر إذا أخر نحو " ما زيد إلا قائم " أنك اختصصت القيام من بين الأوصاف التي يتوهم كون زيد عليها، ونفيت ما عدا القيام عنه . فإنما نعني أنك نفيت عنه الأوصاف التي تنافي القيام، نحو أن يكون " جالسا " أو " مضطجعا " أو " متكئا " أو ما شاكل ذلك . ولم ترد أنك نفيت ما ليس من القيام بسبيل، إذ لسنا ننفي عنه بقولنا : “ ما هو إلا قائم " أن يكون " أسود " أو " أبيض " أو " طويلا " أو " قصيرا " أو " عالما " أو " جاهلا " . كما أنا إذا قلنا : " ما قائم إلا زيد " لم نرد أنه ليس في الدنيا قائم سواه، وإنما نعني ما قائم حيث نحن، وبحضرتنا وما أشبه ذلك .

410- واعلم أن الأمر بين في قولنا : " ما زيد إلا قائم " أن ليس المعنى على نفي الشركة، ولكن على نفي أن لا يكون المذكور، ويكون بدله شيء آخر . ألا ترى أن ليس المعنى أنه ليس له مع " القيام " صفة أخرى، بل المعنى أن ليس له بدل القيام صفة ليست بالقيام، وأن ليس القيام منفيا عنه وكائنا مكانه فيه " القعود " أو " الاضطجاع " أو نحوهما . [ ص: 347 ] فإن قلت : “ فصورة المعنى إذن صورته إذا وضعت الكلام بإنما فقلت: " إنما هو قائم " . ونحن نرى أنه يجوز في هذا أن تعطف بـ " لا " فتقول : “ إنما هو قائم لا قاعد " ولا نرى ذلك جائزا مع " ما " و " إلا " إذ ليس من كلام الناس أن يقولوا : " ما زيد إلا قائم لا قاعد " .

فإن ذلك إنما لم يجز من حيث إنك إذا قلت : “ ما زيد إلا قائم " فقد نفيت عنه كل صفة تنافي " القيام " . وصرت كأنك قلت : " ليس هو بقاعد ولا مضطجع ولا متكئ " . وهكذا حتى لا تدع صفة يخرج بها من " القيام " .

فإذا قلت من بعد ذلك : " لا قاعد " كنت قد نفيت بـ " لا " العاطفة شيئا قد بدأت فنفيته وهي موضوعة لأن تنفي بها ما بدأت فأوجبته، لا لأن تفيد بها النفي في شيء قد نفيته . ومن ثم لم يجز أن تقول : " ما جاءني أحد لا زيد " على أن تعمد إلى بعض ما دخل في النفي بعموم " أحد " فتنفيه على الخصوص، بل كان الواجب إذا أردت ذلك أن تقول : " ما جاءني أحد ولا زيد " فتجئ " بالواو " من قبل " لا " حتى تخرج بذلك عن أن تكون عاطفة، فاعرف ذلك .

411- وإذ قد عرفت فساد أن تقول : " ما زيد إلا قائم لا قاعد " فإنك تعرف بذلك امتناع أن تقول : " ما جاءني إلا زيد لا عمرو " و " ما ضربت إلا زيدا لا عمرا " وما شاكل ذلك . وذلك أنك إذا قلت : “ ما جاءني إلا زيد " فقد نفيت أن يكون قد جاءك أحد غيره . فإذا قلت : [ ص: 348 ] " لا عمرو " كنت قد طلبت أن تنفي بـ " لا " العاطفة شيئا قد تقدمت فنفيته، وذلك - كما عرفتك - خروج بها عن المعنى الذي وضعت له إلى خلافه .

بيان آخر في معنى " إنما " في الجملة، في " ما " و " إلا " وأن حكم " غير " حكم " إلا "

412- فإن قيل : فإنك إذا قلت : “ إنما جاءني زيد " فقد نفيت فيه أيضا أن يكون المجئ قد كان من غيره، فكان ينبغي أن لا يجوز فيه أيضا أن تعطف بـ " لا " فتقول : “ إنما جاءني زيد لا عمرو ".

قيل : إن الذي قلته من أنك إذا قلت : “ إنما جاءني زيد " فقد نفيت فيه أيضا المجئ عن غيره- غير مسلم لك على حقيقته. وذلك أنه ليس معك إلا قولك : " جاءني زيد " وهو كلام كما تراه مثبت ليس فيه نفي البتة، كما كان في قولك : " ما جاءني إلا زيد " . وإنما فيه أنك وضعت يدك على زيد فجعلته " الجائي " . وذلك وإن أوجب انتفاء المجيء عن غيره، فليس يوجبه من أجل أن كان ذلك إعمال نفي في شيء . وإنما أوجبه من حيث كان " المجيء " الذي أخبرت به مجيئا مخصوصا، إذا كان لزيد لم يكن لغيره . والذي أبيناه أن تنفي بـ " لا " العاطفة الفعل عن شيء وقد نفيته عنه لفظا .

413- ونظير هذا أنا نعقل من قولنا : “ زيد هو الجائي " . أن هذا المجيء لم يكن من غيره، ثم لا يمنع ذلك من أن تجيء فيه بـ " لا " العاطفة فتقول : " زيد هو الجائي لا عمرو " . لأنا لم نعقل ما عقلناه من انتفاء المجيء عن غيره " بنفي أوقعناه على شيء " ولكن بأنه لما كان المجيء المقصود مجيئا واحدا كان النص على " زيد " بأنه فاعله وإثباته له نفيا له عن غيره، ولكن من طريق المعقول لا من طريق أن كان في الكلام نفي، كما كان ثم، فاعرفه .

[ ص: 349 ]

414- فإن قيل : فإنك إذا قلت : “ ما جاءني إلا زيد " . ولم يكن غرضك أن تنفي أن يكون قد جاء معه واحد آخر، كان المجيء أيضا مجيئا واحدا .

قيل : إنه وإن كان واحدا فإنك إنما تثبت أن " زيدا " الفاعل له، بأن نفيت المجيء عن كل من سوى زيد، كما تصنع إذا أردت أن تنفي أن يكون قد جاء معه جاء آخر . وإذا كان كذلك كان ما قلناه من أنك إن جئت بـ " لا " العاطفة فقلت : “ ما جاءني إلا زيد لا عمرو " كنت قد نفيت الفعل عن شيء قد نفيته عنه مرة صحيحا ثابتا، كما قلناه، فاعرفه .

415- واعلم أن حكم " غير " في جميع ما ذكرنا حكم " إلا " فإذا قلت : " ما جاءني غير زيد " احتمل أن تريد نفي أن يكون قد جاء معه إنسان آخر، وأن تريد نفي أن لا يكون قد جاء، وجاء مكانه واحد آخر . ولا يصح أن تقول : " ما جاءني غير زيد لا عمرو " . كما لم يجز : " ما جاءني إلا زيد لا عمرو " .

التالي السابق


الخدمات العلمية