صفحة جزء
[ ص: 71 - 72 ] باب موات الأرض

موات الأرض . ما سلم عن الاختصاص [ ص: 73 ] بعمارة [ ص: 74 ] ولو اندرست ، إلا لإحياء .


( باب ) في بيان الموات وإحيائه وما يتعلق به ( موات ) بفتح الميم ويقال له أيضا موتان بفتح الميم والواو وميتة . وأما بضم الميم والموتان بضمها فهما الموت الذريع ، أي حقيقة موات ( الأرض ما ) أي أرض جنس شمل كل أرض ( سلم ) جرده من تاء التأنيث مراعاة للفظ ما ، أي خلا ( عن الاختصاص ) أي كونه مختصا بأحد ، فصل مخرج غير الموات . ابن عرفة إحياء الموات لقب لتعمير دائر الأرض بما يقتضي عدم انصراف المعمر عن انتفاعه بها وموات الأرض . قال ابن رشد روى ابن غانم موات الأرض هي لا نبات بها لقوله تعالى { فأحيينا به الأرض بعد موتها } فاطر ، فلا يصح الإحياء إلا في البور . ثم قال ابن عرفة ابن الحاجب الموات الأرض المنفكة عن الاختصاص فتبع مع ابن شاس الغزالي ، وتركا رواية ابن غانم ، وهي أجلى لعدم توقف تصور مدلولها على الاختصاص وموجبه . [ ص: 73 ] طفي هذا التعريف للغزالي ارتكبه ابن شاس وابن الحاجب ، وتبعهما المصنف مع أنه مخالف لاصطلاح أهل المذهب ، وذلك أنهم فسروا الموات بالسالم عن الاختصاص والاختصاص يكون بأسباب لا تكون الأرض غير موات إلا باستيفائها . ابن شاس الموات الأرض المنفكة عن الاختصاص ، والاختصاص أنواع ، ثم ذكر الأنواع التي ذكرها المصنف فاقتضى كلامه أن حريم العمارة لا يسمى مواتا ، وهو يخالف قوله حين تكلم على الإحياء . الموات قسمان : قريب من العمران وبعيد ، فالقريب يفتقر إحياؤه لإذن الإمام لوقوع التشاح فيه ، بخلاف البعيد ، وهو ما خرج عما يحتاجه أهل العمارة من محتطب ومرعى إلخ ، وكذا أهل المذهب يطلقون على الحريم مواتا قريبا كان أو بعيدا ، فاعجب من هؤلاء الأئمة كيف ارتكبوا هذا الحد ولم يتنبهوا أنه مناقض لكلام أهل المذهب ، بل لكلامهم ، ، فالصواب في تعريف الموات على اصطلاح أهل المذهب ما لم يعمر من الأرض كما قال عياض وصاحب اللباب ، والمحياة ما عمرت ، والإحياء التعمير .

البناني وفي التوضيح إشارة إلى نحو هذا الإيراد عند تقسيم الموات إلى قريب وبعيد ، ويمكن الجواب عن المصنف بجعل قوله بعمارة من تمام التعريف ، فيخرج به كل ما وقع فيه الاختصاص بغير العمارة كالحريم والحمى وما أقطعه الإمام ، ويكون قوله ولو اندرست إلخ مبالغة على ما فهم من أن المعمر ليس بموات ، ويقدر لقوله وبحريمها عامل يناسبه والله أعلم .

قوله فيخرج به كذا في نسخة البناني التي بيدي ، وصوابه يدخل ، إذ المقصود إدخال الحريم والحمى والمقطع في الموات ، ولأن قيد القيد للإدخال كما هو معلوم . الحط وبدأ المصنف رحمه الله تعالى بتعريف الموات إما ; لأنه السابق في الوجود فلتقدمه طبعا قدمه وضعا ، وإما ; لأن حقيقة الموات واحدة والإحياء يكون بأمور كل منها مضاد الموات ، فاحتاج إلى ذكره أولا ليذكر أضداده بعده .

وصلة الاختصاص ( بعمارة ) بكسر العين المهملة ، أي تعمير ، فالأرض المعمرة ليست [ ص: 74 ] مواتا إن بقيت العمارة ، بل ( ولو اندرست ) أي فنيت العمارة وعادت الأرض لما كانت عليه قبل تعميرها فلا يزول اختصاص محييها عنها في كل حال ( إلا لإحياء ) من شخص آخر بعد طول اندراس عمارة الأول ، فيزول اختصاص الأول ويختص الثاني بها ، فيها من أحيا أرضا ميتة ثم تركها حتى دثرت وطال زمانها وهلكت أشجارها وتهدمت آبارها وعادت كأول مرة ثم أحياها غيره فهي لمحييها آخرا . ابن يونس قياسا على الصيد إذا أفلت ولحق بالوحش وطال زمانه ثم صاده آخر فهو للثاني .

قال الإمام مالك رضي الله تعالى عنه هذا إذا أحيا في غير أصل كان له ، فأما من ملك أرضا بخطة أو شراء ثم أسلمها فهي له وليس لأحد أن يحييها . الباجي من اشترى أرضا ثم اندرست فلا يرتفع ملكه عنها باندراسها اتفاقا . ابن رشد إنما يكون الثاني أحق بها إذا طالت المدة بعد اندراسها وعودها لحالها الأول . وأما إن أحياها الثاني بحدثان اندراسها وعودها لحالها الأول ، فإن كان جاهلا بالأول فله قيمة عمارته قائمة للشبهة ، وإن كان عالما به فليس له إلا قيمتها منقوضة بعد يمين الأول إن تركه إياها لم يكن إسلاما لها ، وأنه كان ناويا إعادتها الحط ينبغي أن يقيد بعدم علم أول عمارة الثاني وسكوته ، وإلا كان سكوته دليلا على إسلامه إياها والله أعلم .

البناني حاصل ما أشار إليه المصنف على ما يفيده نقله في توضيحه عن البيان أن العمارة تارة تكون ناشئة عن إحياء ، وتارة عن ملك ، ويحصل الاختصاص بها إذا لم تندرس في القسمين ، فإن اندرست فإن كانت عن ملك كإرث أو هبة أو شراء فالاختصاص باق اتفاقا خلافا لما يفيده ، ولو من قوله ولو اندرست ، وإن كانت عن إحياء فهل الاختصاص باق أو لا ؟ قولان ، وعلى الثاني درج المصنف ، ولكنه مقيد بطول زمن الاندراس ، هذا هو الحق في تقرير كلام المصنف ، فقوله بعمارة أي سواء كانت عن ملك أو إحياء ، وقوله : ولو اندرست لدفع التوهم فقط لا للإشارة للخلاف ، فلو عبر بأن كان أوفق باصطلاحه ، واللام في قوله لإحياء بمعنى عن ، أي إلا العمارة الناشئة عن إحياء فاندراسها يخرجها عن [ ص: 75 ] ملك محييها ، وبهذا يوافق كلامه كلام ابن الحاجب وضيح .

ابن الحاجب والاختصاص على وجوه : الأول العمارة ولو اندرست ، فإن كانت عمارة إحياء فاندرست فقولان . قال في ضيح مراده عمارة ملك لمقابلتها بقوله فإن كانت عمارة إحياء فقولان أحدهما أن اندراسها يخرجها عن ملك محييها فيجوز لغيره أن يحييها ، وهو قول ابن القاسم . والثاني : لسحنون أنها للأول وإن أعمرها غيره حكاه عنه صاحب البيان وغيره ، وحكى عنه ثالث إن كانت قريبا من العمران ، فالأول أولى بها ، وإن كانت بعيدا ، فالثاني أولى بها قال ، وقوله عندي صحيح على معنى ما في المدونة أن ما قرب لا يحيا إلا بقطعه من الإمام فكأنه صار ملكا ، وسأل ابن عبدوس سحنونا هل تشبه هذه مسألة الصيد فقال لا . الباجي والفرق أن الصيد لو ابتاعه ثم ند واستوحش كان لمن صاده ، ولا خلاف أن من اشترى أرضا فتبورت فأحياها غيره أنها لمشتريها ، ثم قال واعترض على المصنف بأن قوله أولا العمارة مستغنى عنه ; لأن مجرد الملك كاف في الاختصاص لا يفتقر لعمارة ، وأجيب بأنه لعله ذكره ليقسم العمارة . ا هـ . وكذا يقال في كلام المصنف هنا ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية