صفحة جزء
وقوله :


فإن كنت قد ساءتك مني خليقة فسلي ثيابي من ثيابك تنسل     وما ذرفت عيناك إلا لتضربي
بسهميك في أعشار قلب مقتل



البيت الأول قد قيل في تأويله : إنه ذكر الثوب وأراد البدن ، مثل قول الله تعالى : وثيابك فطهر . وقال أبو عبيدة : هذا مثل للهجر . وتنسل : تبين .

وهو بيت قليل المعنى ، ركيكه ووضيعه . وكل ما أضاف إلى نفسه ووصف به نفسه سقوط وسفه وسخف ، يوجب قطعه . فلم لم يحكم على نفسه بذلك ، ولكن يورده مورد أن ليست له خليقة توجب هجرانه والتفصي من وصله ، وأنه مهذب الأخلاق ، شريف الشمائل ؛ فذلك يوجب أن لا ينفك من وصاله .

[ ص: 170 ] والاستعارة في المصراع الثاني فيها تواضع وتقارب ، وإن كانت غريبة .

وأما البيت الثاني فمعدود من محاسن القصيدة وبدائعها . ومعناه : ما بكيت إلا لتجرحي قلبا معشرا - أي مكسرا - من قولهم : " برمة أعشار " إذا كانت قطعا . هذا تأويل ذكره الأصمعي ، وهو أشبه عند أكثرهم .

وقال غيره : وهذا مثل للأعشار التي تقسم الجزور عليها . ويعني بسهميك : المعلى ، وله سبعة أنصباء ، والرقيب ، وله ثلاثة أنصباء . فأراد أنك ذهبت بقلبي أجمع .

ويعني بقوله : مقتل : مذلل .

وأنت تعلم أنه على ما يعني به فهو غير موافق للأبيات المتقدمة ؛ لما فيها من التناقض الذي بينا .

ويشبه أن يكون من قال بالتأويل الثاني ، فزع إليه لأنه رأى اللفظ مستكرها على المعنى الأول ، لأن القائل إذا قال : " ضرب فلان بسهمه في الهدف " ، بمعنى أصابه - كان كلاما ساقطا مرذولا ، وهو يرى أن معنى الكلمة أن عينيها كالسهمين النافذين في إصابة قلبه المجروح ، فلما بكتا وذرفتا بالدموع كانتا ضاربتين في قلبه .

ولكن من حمل على التأويل الثاني سلم من الخلل الواقع في اللفظ ، ولكنه يفسد المعنى ويختل ؛ لأنه إن كان محبا - على ما وصف به نفسه من الصبابة - فقلبه كله لها ، فكيف يكون بكاؤها هو الذي يخلص قلبه لها ؟ !

واعلم بعد هذا أن البيت غير ملائم للبيت الأول ، ولا متصل به في المعنى ، [ ص: 171 ] وهو منقطع عنه ؛ لأنه لم يسبق كلام يقتضي بكاءها ، ولا سبب يوجب ذلك ؛ فتركيبه هذا الكلام على ما قبله فيه اختلال .

ثم لو سلم له بيت من عشرين بيتا ، وكان بديعا ولا عيب فيه - فليس بعجيب ؛ لأنه لا يدعى على مثله أن كلامه كله متناقض ، ونظمه كله متباين .

وإنما يكفي أن نبين أن ما سبق من كلامه إلى هذا البيت ، مما لا يمكن أن يقال إنه يتقدم فيه أحدا من المتأخرين ، فضلا عن المتقدمين .

وإنما قدم في شعره لأبيات قد برع فيها ، وبان حذقه بها .

وإنما أنكرنا أن يكون شعره متناسبا مع الجودة ، ومتشابها في صحة المعنى واللفظ ، وقلنا : إنه يتصرف بين وحشي غريب مستنكر ، وعربية كالمهمل مستكرهة ، وبين كلام سليم متوسط ، وبين عامي سوقي في اللفظ والمعنى ، وبين حكمة حسنة ، وبين سخف مستشنع . ولهذا قال الله - عز اسمه - : ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا .

* *

التالي السابق


الخدمات العلمية