صفحة جزء
[ ص: 176 ] وقوله :


فجئت وقد نضت لنوم ثيابها لدى الستر إلا لبسة المتفضل     فقالت : يمين الله ما لك حيلة
وما إن أرى عنك الغواية تنجلي



انظر إلى البيت الأول والأبيات التي قبله ، كيف خلط في النظم ؛ وفرط في التأليف ! فذكر التمتع بها ، وذكر الوقت والحال والحراس - ثم ذكر كيف كان صفتها لما دخل عليها ووصل إليها ، من نزعها ثيابها إلا ثوبا واحدا ، والمتفضل : الذي في ثوب واحد ، وهو الفضل ، فما كان من سبيله أن يقدمه إنما ذكره مؤخرا .

وقوله : " لدى الستر " : حشو ، وليس بحسن ولا بديع ، وليس في البيت حسن ، ولا شيء يفضل لأجله .

وأما البيت الثاني ففيه تعليق واختلال ، ذكر الأصمعي أن معنى قوله : " ما لك حيلة " ، أي ليست لك جهة تجيء فيها والناس أحوالي .

والكلام في المصراع الثاني منقطع عن الأول ، ونظمه إليه فيه ضرب من التفاوت .

* * *

وقوله :


فقمت بها أمشي تجر وراءنا     على إثرنا أذيال مرط مرجل
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى     بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل



البيت الأول يذكر من محاسنه : من مساعدتها إياه ، حتى قامت معه ليخلوا ، وأنها كانت تجر على الإثر أذيال مرط مرجل ، والمرجل : ضرب من البرود ، يقال لوشيه : الترجيل ، وفيه تكلف . لأنه قال : " وراءنا على [ ص: 177 ] إثرنا " ، ولو قال " على إثرنا " كان كافيا ، والذيل إنما يجر وراء الماشي ، فلا فائدة لذكره " وراءنا " ، وتقدير القول : فقمت أمشي بها ، وهذا أيضا ضرب من التكلف .

وقوله " أذيال مرط " ، كان من سبيله أن يقول : ذيل مرط .

على أنه لو سلم من ذلك كان قريبا ليس مما يفوت بمثله غيره ، ولا يتقدم به سواه . وقول ابن المعتز أحسن منه :


فبت أفرش خدي في الطريق له     ذلا وأسحب أكمامي على الأثر



وأما البيت الثاني فقوله " أجزنا " بمعنى " قطعنا " ، و " الخبت " : بطن من الأرض ، و " الحقف " : رمل منعرج ، و " العقنقل " : المنعقد من الرمل الداخل بعضه في بعض .

وهذا بيت متفاوت مع الأبيات المتقدمة ؛ لأن فيها ما هو سلس قريب يشبه كلام المولدين وكلام البذلة ، وهذا قد أغرب فيه وأتى بهذه اللفظة الوحشية المتعقدة ، وليس في ذكرها والتفضيل بإلحاقها بكلامه فائدة .

والكلام الغريب واللفظة الشديدة المباينة لنسج الكلام قد تحمد إذا وقعت موقع الحاجة في وصف ما يلائمها ، كقوله - عز وجل - في وصف يوم القيامة : يوما عبوسا قمطريرا . فأما إذا وقعت في غير هذا الموقع ، فهي مكروهة مذمومة ، بحسب ما تحمد في موضعها .

وروي أن جريرا أنشد بعض خلفاء بني أمية قصيدته :


بان الخليط برامتين فودعوا     أوكلما جدوا لبين تجزع ؟
كيف العزاء ولم أجد مذ بنتم     قلبا يقر ولا شرابا ينقع



قال : وكان يزحف من حسن هذا الشعر ، حتى بلغ قوله :


وتقول بوزع : قد دببت على العصا     هلا هزئت بغيرنا يا بوزع



[ ص: 178 ] فقال : أفسدت شعرك بهذا الاسم ! !

* * *

وأما قوله :


هصرت بغصني دوحة فتمايلت     علي هضيم الكشح ريا المخلخل
مهفهفة بيضاء غير مفاضة     ترائبها مصقولة كالسجنجل



فمعنى قوله " هصرت " : جذبت وثنيت .

وقوله " بغصني دوحة " ، تعسف ، ولم يكن من سبيله أن يجعلهما اثنين .

والمصراع الثاني أصح ، وليس فيه شيء إلا ما يتكرر على ألسنة الناس من هاتين الصفتين . وأنت تجد ذلك في وصف كل شاعر ، ولكنه - مع تكرره على الألسن - صالح .

وأما معنى قوله " مهفهفة " : أنها مخففة ليست مثقلة .

و " المفاضة " : التي اضطرب طولها .

والبيت - مع مخالفته في الطبع الأبيات المتقدمة ، ونزوعه فيه إلى الألفاظ المستكرهة ، وما فيه من الخلل ، من تخصيص الترائب بالضوء ، بعد ذكر جميعها بالبياض - فليس بطائل ، ولكنه قريب متوسط .

* *

التالي السابق


الخدمات العلمية