صفحة جزء
خذ الآن - هداك الله - في تفريغ الفكر ، وتخلية البال ؛ وانظر فيما نعرض عليك ، ونهديه إليك ؛ متوكلا على الله ، ومعتصما به ، ومستعيذا به من الشيطان الرجيم ؛ حتى تقف على إعجاز القرآن العظيم .

[ ص: 185 ] سماه الله - عز ذكره - " حكيما " و " عظيما " و " مجيدا " .

وقال : لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .

وقال : لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون .

وقال : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا .

وقال : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .

وأخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين القزويني ، حدثنا أبو عبد الرحمن أحمد بن عثمان ، حدثنا أبو يوسف الصيدلاني ، حدثنا محمد بن سلمة ، عن أبي سنان ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري الطائي ، عن الحارث الأعور ، عن علي - رضي الله عنه - قال :

قيل : يا رسول الله ، إن أمتك ستفتتن من بعدك ؛ فسأل أو سئل : ما المخرج من ذلك ؟

فقال : " بكتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ؛ من ابتغى العلم في غيره أضله الله ، ومن ولي هذا من جبار فحكم بغيره قصمه الله ؛ وهو الذكر الحكيم ، والنور المبين ، والصراط المستقيم . فيه خبر من قبلكم ، وتبيان من بعدكم ؛ وهو فصل ، ليس بالهزل . وهو الذي لما سمعته الجن قالوا :
إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به لا يخلق على طول الرد ، ولا تنقضي عبره ، ولا تفنى عجائبه
.

وأخبرني أحمد بن علي بن الحسن ، أخبرنا أبي ، أخبرنا بشر بن عبد الوهاب ، [ ص: 186 ] أخبرنا هشام بن عبيد الله ، حدثنا المسيب بن شريك ، عن عبيدة ، عن أسامة بن أبي عطاء ؛ قال : أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى علي - رضي الله عنه - في ليلة ، فذكر نحو ذلك في المعنى ، وفي بعض ألفاظه اختلاف .

وأخبرنا أحمد بن علي بن الحسن ، أخبرنا أبي ، أخبرنا بشر بن عبد الوهاب ، أخبرنا هشام بن عبيد الله ، حدثنا المسيب بن شريك ، عن بشر بن نمير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ؛ قال :

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من قرأ ثلث القرآن أعطي ثلث النبوة ، ومن قرأ نصف القرآن أعطي نصف النبوة ، ومن قرأ القرآن كله أعطي النبوة كلها غير أنه لا يوحى إليه " . وذكر الحديث .

* * *

ولو لم يكن من عظم شأنه إلا أنه طبق الأرض أنواره ، وجلل الآفاق ضياؤه ، ونفذ في العالم حكمه ، وقبل في الدنيا رسمه ؛ وطمس ظلام الكفر بعد أن كان مضروب الرواق ، ممدود الأطناب ، مبسوط الباع ، مرفوع العماد ليس على الأرض من يعرف الله حق معرفته ، أو يعبده حق عبادته ، أو يدين بعظمته ، أو يعلم علو جلالته ، أو يتفكر في حكمته . فكان كما وصفه الله تعالى جل ذكره ، من أنه نور ، فقال : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من [ ص: 187 ] نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم .

فانظر - إن شئت - إلى شريف هذا النظم ، وبديع هذا التأليف ، وعظيم هذا الرصف ؛ كل كلمة من هذه الآية تامة ، وكل لفظ بديع واقع .

قوله : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا : يدل على صدوره من الربوبية ، ويبين عن وروده عن الإلهية . وهذه الكلمة بمنفردها وأخواتها كل واحدة منها لو وقعت بين كلام كثير - تميز عن جميعه ، وكان واسطة عقده ، وفاتحة عقده ، وغرة شهره ، وعين دهره .

وكذلك قوله : ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا ، فجعله روحا ؛ لأنه يحيي الخلق ، فله فضل الأرواح في الأجساد . وجعله نورا لأنه يضيء ضياء الشمس في الآفاق . ثم أضاف وقوع الهداية به إلى مشيئته ، ووقف وقوع الاسترشاد به على إرادته ، وبين أنه لم يكن ليهتدي إليه لولا توفيقه ، ولم يكن ليعلم ما في الكتاب ولا الإيمان لولا تعليمه ؛ وأنه لم يكن ليهتدي - فكيف كان يهدي - لولاه ، فقد صار يهدي ، ولم يكن من قبل ذلك ليهتدي ، فقال :

وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور .

فانظر إلى هذه الكلمات الثلاث : فالكلمتان الأوليان مؤتلفتان ، وقوله : ألا إلى الله تصير الأمور كلمة منفصلة مباينة للأولى ، قد صيرهما شريف النظم أشد ائتلافا من الكلام المؤالف ، وألطف انتظاما من الحديث الملائم .

وبهذا يبين فضل الكلام ، وتظهر فصاحته وبلاغته .

الأمر أظهر - والحمد لله - والحال أبين من أن يحتاج إلى كشف .

[ ص: 188 ] تأمل قوله : فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم .

انظر إلى هذه الكلمات الأربع التي ألف بينها ، واحتج بها على ظهور قدرته ، ونفاذ أمره ، أليس كل كلمة منها في نفسها غرة ؟ وبمنفردها درة ؟

وهو - مع ذلك - يبين أنه يصدر من علو الأمر ، ونفاذ القهر ؛ ويتجلى في بهجة القدرة ، ويتحلى بخالصة العزة ، ويجمع السلاسة إلى الرصانة ، والسلامة إلى المتانة ، والرونق الصافي ، والبهاء الضافي .

ولست أقول : إنه شمل الإطباق المليح ، والإيجاز اللطيف ، والتعديل والتمثيل ، والتقريب والتشكيل - وإن كان قد جمع ذلك وأكثر منه – لأن العجيب ما بينا من انفراد كل كلمة بنفسها ، حتى تصلح أن تكون عين رسالة أو خطبة ، أو وجه قصيدة أو فقرة . فإذا ألفت ازدادت به حسنا وإحسانا ، وزادتك - إذا تأملت - معرفة وإيمانا .

* * *

ثم تأمل قوله : وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم .

هل تجد كل لفظة ، وهل تعلم كل كلمة ، تستقل بالاشتمال على نهاية البديع ، وتتضمن شرط القول البليغ ؟

فإذا كانت الآية تنتظم من البديع ، وتتألف من البلاغات ، فكيف لا تفوت [ ص: 189 ] حد المعهود ، ولا تجوز شأو المألوف ؟ وكيف لا تحوز قصب السبق ، ولا تتعالى عن كلام الخلق ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية