صفحة جزء
[ ص: 291 ] فصل

في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمور تتصل بالإعجاز

إن قال قائل : إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أفصح العرب - وقد قال هذا في حديث مشهور ، وهو صادق في قوله - فهلا قلتم : إن القرآن من نظمه لقدرته في الفصاحة على مقدار لا يبلغه غيره ؟

قيل : قد علمنا أنه لم يتحدهم إلى مثل قوله وفصاحته . والقدر الذي بينه وبين كلام غيره من الفصحاء ، كقدر ما بين شعر الشاعرين ، وكلام الخطيبين في الفصاحة ، وذلك مما لا يقع به الإعجاز .

وقد بينا قبل هذا : أنا إذا وازنا بين خطبه ورسائله وكلامه المنثور ، وبين نظم القرآن - تبين من البون بينهما مثل ما بين كلام الله - عز وجل - وبين كلام الناس ، فلا معنى لقول من ادعى أن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - معجز ، وإن كان دون القرآن في الإعجاز .

فإن قيل : لولا أن كلامه معجز لم يشتبه على ابن مسعود الفصل بين المعوذتين وبين غيرهما من القرآن ؟

[ ص: 292 ] وكذلك لم يشتبه دعاء القنوت في أنه هل هو من القرآن أم لا ؟

قيل : هذا من تخليط الملحدين ؛ لأن عندنا أن الصحابة لم يخف عليهم ما هو من القرآن .

ولا يجوز أن يخفى عليهم القرآن من غيره ، وعدد السور عندهم محفوظ مضبوط .

وقد يجوز أن يكون شذ عن مصحفه ، لا لأنه نفاه من القرآن ، بل عول على حفظ الكل إياه .

على أن الذي يروونه خبر واحد ، لا يسكن إليه في مثل هذا ، ولا يعمل عليه .

ويجوز أن يكتب على ظهر مصحفه دعاء القنوت لئلا ينساه ، كما يكتب الواحد منا بعض الأدعية على ظهر مصحفه .

وهذا نحو ما يذكره الجهال : من اختلاف كثير بين مصحف ابن مسعود ، وبين مصحف عثمان - رحمة الله عليهما - .

ونحن لا ننكر أن يغلط في حروف معدودة ، كما يغلط الحافظ في حروف وينسى ، وما لا نجيزه على الحفاظ مما لم نجزه عليه .

ولو كان قد أنكر السورتين على ما ادعوا ، لكانت الصحابة تناظره على ذلك ، وكان يظهر وينتشر ؛ فقد تناظروا في أقل من هذا ، وهذا أمر يوجب التكفير والتضليل ، فكيف يجوز أن يقع التخفيف فيه ؟ ! وقد علمنا إجماعهم على ما جمعوه في المصحف ، فكيف يقدح بمثل هذه الحكايات الشاذة المولدة في الإجماع المقرر ، والاتفاق المعروف ؟ !

ويجوز أن يكون الناقل اشتبه عليه ؛ لأنه خالف في النظم والترتيب ، [ ص: 293 ] فلم يثبتهما في آخر القرآن ، والاختلاف بينهم في موضع الإثبات غير الكلام في الأصل ، ألا ترى أنهم قد اختلفوا في أول ما نزل من القرآن :

فمنهم من قال : قوله : اقرأ باسم ربك .

ومنهم من قال : يا أيها المدثر .

ومنهم من قال : فاتحة الكتاب .

واختلفوا أيضا في آخر ما أنزل :

فقال ابن عباس : إذا جاء نصر الله .

وقالت عائشة : سورة المائدة .

وقال البراء بن عازب : آخر ما أنزل سورة براءة .

وقال سعيد بن جبير : آخر ما أنزل قوله تعالى : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله .

وقال السدي : آخر ما أنزل فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت .

[ ص: 294 ] ويجوز أن يكون في مثل هذا خلاف ، وأن يكون كل واحد ذكر آخر ما سمع .

* * *

ولو كان القرآن من كلامه ، لكان البون بين كلامه وبينه مثل ما بين خطبة وخطبة ينشئهما رجل واحد ، وكانوا يعارضونه ؛ لأنا قد علمنا أن القدر الذي بين كلامهم وبين كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج إلى حد الإعجاز ، ولا يتفاوت التفاوت الكثير ، ولا يخفى كلامه من جنس أوزان كلامهم ؛ وليس كذلك نظم القرآن ، لأنه خارج من جميع ذلك .

فإن قيل : لو كان على ما ادعيتم ، لعرفنا بالضرورة أنه معجز دون غيره ؟

قيل : معرفة الفصل بين وزن الشعر أو غيره من أوزان الكلام لا يقع ضرورة ، ويحتاج في معرفة ذوق الشعر ووزنه ، والفرق بينه وبين غيره من الأوزان يحتاج إلى نظر وتأمل ، وفكر وروية واكتساب . وإن كان النظم المختلف الشديد التباين إذا وجد أدرك اختلافه بالحاسة . إلا أن كل وزن وقبيل إذا أردنا تمييزه من غيره احتجنا فيه إلى الفكرة والتأمل .

فإن قيل : لو كان معجزا لم يختلف أهل الملة في وجه إعجازه ؟

قيل : قد يثبت الشيء دليلا وإن اختلفوا في وجه دلالة البرهان ، كما قد يختلفون في الاستدلال على حدوث العالم من الحركة والسكون ، والاجتماع والافتراق .

فأما المخالفون ، فإنه يتعذر عليهم أن يعرفوا أن القرآن كلام الله ، لأن مذهبهم أنه لا فرق بين أن يكون القرآن من قبل الرسول أو من قبل الله - عز وجل - في كونه معجزا ، لأنه إن خصه بقدر من العلم لم تجر العادة بمثله ، [ ص: 295 ] أمكنه أن يأتي بما له هذه الرتبة ، وكان متعذرا على غيره ، لفقد علمه بكيفية النظم .

وليس القوم بعاجزين عن الكلام ، ولا عن النظم والتأليف . والمعنى المؤثر عندهم في تعذر مثل نظم القرآن علينا : فقد العلم بكيفية النظم ، وقد بينا قبل هذا أن المانع هو أنهم لا يقدرون عليه .

والمفحم قد يعلم كيفية الأوزان واختلافها ، وكيفية التركيب ، وهو لا يقدر على نظم الشعر .

وقد يعلم الشاعران وجوه الفصاحة ، وإذا قالا الشعر جاء شعر أحدهما في الطبقة العالية ، وشعر الآخر في الطبقة الوضيعة .

وقد يطرد في شعر المبتدي والمتأخر في الحذق - القطعة الشريفة والبيت النادر ، مما لا يتفق للشاعر المتقدم .

والعلم بهذا الشأن في التفصيل لا يغني ، ويحتاج معه إلى مادة من الطبع ، وتوفيق من الأصل .

وقد يتساوى العالمان بكيفية الصناعة والنساجة ، ثم يتفق لأحدهما من اللطف في الصنعة ، ما لا يتفق للآخر .

وكذلك أهل نظم الكلام - يتفاضلون ، مع العلم بكيفية النظم ؛ وكذلك أهل الرمي يتفاضلون في الإصابة ، مع العلم بكيفية الإصابة .

وإذا وجدت للشاعر بيتا أو قطعة أحسن من شعر امرئ القيس ، لم يدل ذلك على أنه أعلم بالنظم منه ؛ لأنه لو كان كذلك كان يجب أن يكون جميع شعره على ذلك الحد ، وبحسب ذلك البيت في الشرف والحسن والبراعة ، ولا يجوز أن يعلم نظم قطعة ويجهل نظم مثلها ، وإن كان كذلك ، علم أن هذا لا يرجع إلى قدره من العلم ، ولسنا نقول : إنه يستغنى عن العلم في النظم ، بل يكفي علم به في الجملة ، ثم يقف الأمر على القدرة .

[ ص: 296 ] وهذا يبين لك بأنه قد يعلم الخط فيكتب سطرا ، فلو أراد أن يأتي بمثله بحيث لا يغادر منه شيئا لتعذر ، والعلم حاصل .

وكذلك قد يحسن كيفية الخط ، ويميز الجيد منه من الرديء ، ولا يمكنه أن يأتي بأرفع درجات الجيد .

وقد يعلم قوم كيفية إدارة الأقلام ، وكيفية تصوير الخط ، ثم يتفاوتون في التفصيل ، ويختلفون في التصوير .

وألزمهم أصحابنا أن يقولوا بقدرتنا على إحداث الأجسام ، وإنما يتعذر وقوع ذلك منا بأنا لا نعلم الأسباب التي إذا عرفنا إيقاعها على وجوه اتفق لنا فعل الأجسام .

وقد ذهب بعض المخالفين إلى أن العادة انتقضت بأن أنزله جبريل ، فصار القرآن معجزا لنزوله على هذا الوجه ، ومن قبله لم يكن معجزا ! !

هذا قول أبي هاشم ، وهو ظاهر الخطإ ؛ لأنه يوجب أن يكونوا قادرين على مثل القرآن ، وأنه لم يكن يتعذر عليهم فعل مثله ، وإنما تعذر بإنزاله ، ولو كانوا قادرين على مثل ذلك كان قد اتفق من بعضهم مثله .

وإن كانوا في الحقيقة غير قادرين قبل نزوله ولا بعده على مثله ، فهو قولنا .

وأما قول كثير من المخالفين ، فهو على ما بينا ؛ لأن معنى المعجز عندهم تعذر فعل مثله ، وكان ذلك متعذرا قبل نزوله وبعده .

فأما الكلام في أن التأليف هل له نهاية ؟

فقد اختلف المخالفون من المتكلمين فيه :

فمنهم من قال : ليس لذلك نهاية ، كالعدد ، فلا يمكن أن يقال : إنه [ ص: 297 ] لا يتأتى قول قصيدة إلا وقد قيلت من قبل .

ومنهم من قال : إن ما جرت به العادة فله نهاية ، وما لم تجر به العادة فلا يمكن أن تعلم نهاية الرتبة فيه .

وقد بينا : أن على أصولنا قد تقرر لكلامنا ونظمنا حد في العادة ، ولا سبيل إلى تجاوزه ، ولا يقدر عليه ، فإن القرآن خرق العادة فزاد عليها .

التالي السابق


الخدمات العلمية