صفحة جزء
[ ص: 68 ] باب

ذكر تراكب التنوين ، وتتابعه ، وكيفية نقط ما يلقى من الحروف

واعلم أن الاسم إذا لحقه التنوين في حال نصبه أو خفضه أو رفعه ، وأتى بعده حرف من حروف الحلق ، وهي ستة : الهمزة ، والهاء ، والحاء ، والعين ، والخاء ، والغين ؛ فإن النقطتين من الحركة والتنوين تجعلان مع ذلك متراكبتين واحدة فوق أخرى ، على ما تقدم من جعل المنصوب والمخفوض والمرفوع ، فالسفلى منهما الحركة ؛ لأنها تلي صورة الحرف . والعليا التنوين ؛ لأنه آت بعد الحركة . هذا في حال النصب والرفع . وفي حال الخفض : العليا الحركة ؛ لأنها هي التي تلي الحرف فيه ، والسفلى التنوين ، وتجعل على حرف الحلق نقطة لا غير ؛ ليدل بذلك على أن التنوين مظهر عنده . وذلك نحو قوله : عذاب أليم ، و جرف هار ، و لعلي حكيم ، و سميع عليم ، و عليم خبير ، و عفوا غفورا ، وشبهه .

وهذا مع الهاء والحاء والعين ، من حيث انعقد الإجماع على بيان التنوين [ ص: 69 ] عندهن . وكذلك الهمزة أظهرت محققة أو ألقي حركتها على ساكن قبلها ؛ لأنها مع ذلك في النية والتقدير . وأما الخاء والغين فمن بين التنوين عندهما جعل النقطتين قبلهما متراكبتين ، على ما تقدم . ومن أخفاه عندهما جعل النقطتين متتابعتين .

والعلة في تراكب التنوين عند حروف الحلق خاصة أنه لما كان حكمه أن يبين عندهن ، لبعد المسافة التي بينه وبينهن في المخرج ؛ أبعدت النقطة التي هي علامته عن حرف الحلق بأن جعلت فوق الحركة ؛ ليؤذن بذلك بانقطاعه وانفصاله عنه ، ويدل به على تخليصه وبيانه .

* * *

وإن أتى بعد الاسم المنون في الأحوال الثلاث من النصب والجر والرفع باقي حروف المعجم ، سوى حروف الحلق ، من حروف اللسان والشفتين جعلت النقطتان من الحركة والتنوين متتابعتين واحدة أمام أخرى ، فالمتقدمة منهما التي تلي الحرف هي الحركة ، والمتأخرة هي التنوين لما ذكرناه .

فإن كان الحرف الآتي بعده أحد أربعة أحرف : راء ، أو لام ، أو نون ، أو ميم ؛ جعل على كل واحد منها علامة التشديد ؛ ليدل بذلك على أن التنوين مدغم فيه ، قد صار معه ، من أجل الإدغام ، بمنزلة حرف واحد مشدد . وذلك نحو قوله : غفور رحيم ، و هدى للمتقين ، و على هدى من ربهم ، و عاملة ناصبة ، وشبهه .

[ ص: 70 ] وإن كان الحرف ياء أو واوا ؛ ففيه وجهان :

إن نقط ذلك على قراءة من أذهب غنة النون والتنوين ، مع الإدغام الصحيح الذي لا يبقى للحرف الأول فيه أثر ؛ جعل على الياء والواو علامة التشديد ، كما فعل ذلك مع الأربعة الأحرف المتقدمة ، من حيث كان إدغام التنوين فيها إدغاما صحيحا . وإن نقط ذلك على قراءة من بين الغنة ولم يذهبها رأسا ؛ جعل على الياء والواو نقطة لا غير ؛ ليفرق بذلك بين المذهبين ، ويدل به على القراءتين . وذلك في نحو قوله : يومئذ يصدعون ، و يومئذ واهية ، وشبهه . كذا نقطه على الوجه الأول . وعلى الثاني : يومئذ يصدعون ، و يومئذ واهية .

وإن كان الحرف قافا أو كافا أو جيما أو شينا أو غيرها من باقي الحروف التي يخفى التنوين عندها ، أو يقلب ، نحو الباء ، جعل على كل حرف منها نقطة فقط ، وأعري من علامة التشديد ؛ لعدمه فيه رأسا ، بظهور صوت النون والتنوين عنده . فامتنعا بذلك من القلب والإدغام اللذين بهما يتحقق التشديد ويتحصل التثقيل ، وذلك في نحو قوله : من قوم كافرين ، و على كل شيء قدير ، و شيئا جنات عدن ، و غفور شكور ، و يومئذ زرقا ، و " سلاما سلاما ، و رجال صدقوا ، و قوما طاغين ، [ ص: 71 ] و حرث قوم ظلموا ، و قوما ضالين ، و قوما فاسقين ، و جنات تجري ، و شهاب ثاقب ، و ظلمات بعضها ، وما أشبهه ذلك ، حيث وقع . 50 والعلة في تتابع التنوين عند جميع ما تقدم من الحروف أنه لما كان لا يخلو عندها من أحد ثلاثة أوجه : إما أن يدغم ، وإما أن يخفى ، وإما أن يقلب . وهذه الأوجه الثلاثة تجب بالقرب ، أو بمعنى يرجع إليه ، وكان الإدغام بابه أن يدخل الأول من المثلين والمتقاربين في الثاني إدخالا شديدا ، لا فرجة بينهما ولا فصل ، لأجل القلب والتشديد ، وكان الإخفاء قد شارك الإدغام من طريق اشتقاق كلمة ( أدغمت ) ، و ( أخفيت ) من حيث كان معنى ( أدغمت الشيء ) : غيبته ، و ( أخفيته ) : سترته ، فكلا الكلمتين معناهما السترة التي ضد الظهور والبيان . فلما كان التنوين لا يخلو مما ذكرناه ، وكان معنى الإدغام والإخفاء ما بيناه ، قربت النقطة التي هي علامة التنوين من الحروف المتقدمة ، دلالة على اتصاله بها ، ودخوله فيها ، وإعلاما بالتقارب الموجب للإدغام والمحقق للإخفاء . وإن تباينا في اللفظ ، وتفاضلا في الحقيقة فقد اجتمعا في أن عدل بكل واحد منهما عن البيان . والعرب قد تحكم للشيء بحكم الشيء إذا اجتمعا في بعض المعاني . والفرق عند النحويين بينهما في اللفظ أن المدغم مشدد والمخفى مخفف .

* * *

[ ص: 72 ] وهذا الذي ذكرناه من تراكب التنوين عند حروف الحلق ، وتتابعه عند غيرها من سائر حروف المعجم إجماع من السلف الذين ابتدؤوا النقط وابتدعوه ، وعليه جرى استعمال سائر الخلف . قال الخليل - رحمه الله - : كل ما استقبله من حروف الحلق حرف ، وهو منون ، نحو : عفوا غفورا ؛ فالنقط على الطول . وفي نحو : غفور رحيم ، و حبل من مسد ؛ النقط على العرض . يريد بالطول التراكب ، وبالعرض التتابع .

قال أبو عمرو : ولم أر أحدا ممن عني بصناعة النقط في القديم والحديث وجه معنى إجماعهم ، ولا علل حقيقة مذهبهم في تخصيص حروف الحلق بالتراكب ، وما عداها بالتتابع . وقد سألت عن ذلك غير واحد من شيوخهم ، وذاكرت به جماعة من علمائهم ، فكلهم زعم أن ذلك اصطلاح من السلف لزم اتباعهم عليه ، ولا وجه له ، ولا علة فيه . وأنهم لو أجمعوا على تتابعه عند حروف الحلق ، وتراكبه عند ما عداها لكان كإجماعهم الأول المعمول به . وذلك بخلاف ما قالوه ، وعلى غير ما ظنوه ، لما أوضحناه من صحة معنى ما أجمعوا عليه . وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية