مباحث في علوم القرآن

مناع القطان - مناع خليل القطان

صفحة جزء
الترجمة التفسيرية

ويحق لنا أن نقول : إن علماء الإسلام إذا قاموا بتفسير للقرآن ، يتوخى فيه أداء المعنى القريب الميسور الراجح ، ثم يترجم هذا التفسير بأمانة وبراعة ، فإن هذا يقال فيه : " ترجمة تفسير القرآن " أو " ترجمة تفسيرية " بمعنى شرح الكلام وبيان معناه بلغة أخرى . ولا بأس بذلك . فإن الله تعالى بعث محمدا -صلى الله عليه وسلم- برسالة الإسلام إلى البشرية كافة على اختلاف أجناسها وألوانها : " وكان النبي يبعث إلى قومه [ ص: 310 ] خاصة وبعثت إلى الناس كافة “ ، وشرط لزوم الرسالة البلاغ - والقرآن الذي نزل بلغة العرب صار إبلاغه للأمة العربية ملزما لها ، ولكن سائر الأمم التي لا تحسن العربية ، أو لا تعرفها يتوقف إبلاغها الدعوة على ترجمتها بلسانها . وقد عرفنا قبل استحالة الترجمة الحرفية وحرمتها . واستحالة ترجمة المعاني الثانوية ، ومشقة ترجمة المعاني الأصلية وما فيها من أخطار ، فلم يبق إلا أن يترجم تفسير القرآن الذي يتضمن أسس دعوته بما يتفق مع نصوص الكتاب وصريح السنة إلى لسان كل قبيل حتى تبلغهم الدعوة وتلزمهم الحجة . وترجمة تفسير للقرآن على نحو ما ذكرنا يصح أن نسميها بالترجمة التفسيرية . وهي تختلف عن الترجمة المعنوية وإن كان الباحثون لا يفرقون بينهما ، فإن الترجمة المعنوية توهم أن المترجم أخذ معاني القرآن من أطرافها ونقلها إلى اللغة الأجنبية ، كما يقال في ترجمة غيره : ترجمة طبق الأصل . فالمفسر يتكلم بلهجة المبين لمعنى الكلام على حسب فهمه ، فكأنه يقول للناس : هذا ما أفهمه من الآية ، والمترجم يتكلم بلهجة من أحاط بمعنى الكلام وصبه في ألفاظ لغة أخرى . وشتان بين الأمرين . فالمفسر يقول في تفسير الآية : يعني كذا ، ويذكر فهمه الخاص . والمترجم يقول : معنى هذا الكلام هو عين معنى الآية ، وقد عرفنا ما في ذلك .

وينبغي أن يؤكد في الترجمة التفسيرية أنها ترجمة لفهم شخصي خاص ، لا تتضمن وجوه التأويل المحتملة لمعاني القرآن ، وإنما تتضمن ما أدركه المفسر منها ، وبهذا تكون ترجمة للعقيدة الإسلامية ومبادئ الشريعة كما تفهم من القرآن .

وإذا كان إبلاغ الدعوة من واجبات الإسلام فإن ما يتوقف على هذا البلاغ من دراسة اللغات ونقل أصول الإسلام إليها واجب كذلك . كما أن معرفتنا لهذه اللغات بالقدر الضروري تمكننا من دراسة كتبها للرد على المبشرين والمستشرقين الذين غمزوا عود الإسلام من بعيد أو قريب ، وهذا هو ما عناه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه " العقل والنقل " عندما قال : " وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم [ ص: 311 ] ولغتهم فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك ، وكانت المعاني صحيحة - كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعرفهم ، فإن هذا جائز حسن للحاجة ، وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتج إليه " ثم قال : " ولذلك يترجم القرآن والحديث لمن يحتاج إلى تفهمه إياه بالترجمة ، وكذلك يقرأ المسلم ما يحتاج إليه من كتب الأمم وكلامهم بلغتهم ، ويترجم بالعربية ، كما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود ليقرأ له ويكتب له ذلك . حيث لم يأتمن اليهود عليه " .

وإذا كانت الترجمة بمعناها الحقيقي ولو للمعاني الأصلية لا تتيسر في جميع آيات القرآن . وإنما المتيسر الترجمة على معنى التفسير ، كان من الضروري إشعار القارئ بذلك ، ومن وسائله كتابة جمل في حواشي الصحائف يبين بها أن هذا أحد وجوه -أو أرجح وجوه- تحتملها الآية " ولو قامت جماعة ذات نيات صالحة وعقول راجحة . وتولت نقل تفسير القرآن إلى بعض اللغات الأجنبية ، وهي على بينة من مقاصده - وعلى رسوخ في معرفة تلك اللغات ، وتحامت الوجوه التي دخل منها الخلل في التراجم السائرة اليوم في أوروبا لفتحت لدعوة الحق سبيلا كانت مقفلة . ونشرت الحنيفية السمحة في بلاد طافحة بالغواية قاتمة “ .

"

التالي السابق


الخدمات العلمية